دراساتصحيفة البعث

انفجار مرفأ بيروت.. الحقيقة ومحاولات الاستغلال السياسي

تعرّضت العاصمة اللبنانية بيروت في الرابع من الشهر الجاري إلى حادثة ربما لو لم يعايشها الناس لحظة بلحظة، وربما لو لم يعانوا من آثارها التدميرية المباشرة، لظنّ الكثير منهم أن ما يرون هو جزء من فيلم من أفلام الخيال السينمائي، فخلال ثوانٍ معدودات أخذ الأرض تهتز تحت أقدام البشر، وفي المنازل غدا كل شيء في حراك، وما هي إلا ثوانٍ أخرى حتى وقع الانفجار الذي هزّ هذه المرة كل شيء في العاصمة التي غدت منكوبة، حتى أن الصوت المدوّي للانفجار قد سمع على بعد عشرات الكيلو مترات، ربما شهد الكثير من أهالي بيروت على مرّ الزمن انفجارات عدة، ولكن يبدو أن هذا كان الأعنف من بينها، حتى أن سيارات الإسعاف لم تجد لها مسلكاً نحو المصابين الذين كانوا بالمئات، فضلاً عن أعداد من القتلى تجاوز المئتين، واللافت أن نحو ثلث الضحايا كانوا من السوريين، وآخرين كانوا – ولا يزالون – تحت أنقاض الأبنية التي تهاوت عليهم، وبعد الذي جرى لم يكن من السهل على الأهالي التعرّف على المباني التي تهاوى قسم منها، فيما تهشّم قسم آخر.

لقد وقع في البداية انفجار خلّف كميات كبيرة من الدخان الكثيف، والركام، مع سلسلة من الومضات، وحريق هائل في مكان الانفجار الذي تلاه انفجار آخر بعد نحو نصف دقيقة، فارتفع مجدداً الدخان بنّي اللون، وغمامة بيضاء، والحصيلة العشرات من القتلى، ومئات من الجرحى، وتدمير طال المدينة في بناها التحتية كافة.

بدأت الرواية الرسمية وقد أستندت إلى وجود نحو ثلاثة آلاف طن من مادة “نترات الأمونيوم” القابلة للانفجار، جاءت على ظهر سفينة اسمها “روسوس”، قبطانها يدعى “بوريس بروكشيف”، وكانت السفينة قد أبحرت من ميناء “باطومي” في “جورجيا” أواخر أيلول من عام 2013، فيما كانت وجهتها الأصلية ميناء “بيرا” في موزميق”، إذ إن مشتري مادة “نترات الأمونيوم” هو بنك “موزمبيق” الدولي لصالح شركة متخصصة في إنتاج “المتفجرات التجارية”.

كانت السفينة قد صنّعت عام 1986، وهي تفتقر إلى درجة الأمان المطلوبة، ففي تموز من عام 2013، وفي ميناء “إشبيليا” تحديداً، اكتشف المفتشون أن أجزاء من أسطح السفينة قد تآكلت، وإجراءات الحماية فيها ضدّ الحرائق محدودة للغاية. وقبل ذلك في عام 2012 كان رجل الأعمال الروسي “غريشوشكين” المقيم في قبرص قد اشترى السفينة التي تمثّل نشاطه البحري الأول. أما الشركة التي قامت بتزويده بنترات الأمونيوم فهي شركة “روستافي آزوت”.

يذكر أنه وبحسب تصريحات “بروكوشيف” فإن السفينة فيها مشكلات كبيرة، وقد غادر طاقمها الأصلي بسبب التأخّر في سداد الأجور. وكانت السفينة قد أمضت أربع أسابيع في “أثينا” عندما كان مالكها يعمل على جمع الأجور اللازمة لمرورها في قناة السويس”، ثم توجّهت إلى بيروت من أجل تحميل المزيد من البضائع التي تمثّلت في معدّات ثقيلة لبناء الطرق، لكن الحمولة الزائدة كانت خارج قدرة السفينة على استيعابها، فضلاً عن أن العنابر كانت قديمة، ما أدى إلى تحطّمها في نهاية المطاف.

ولكن قبل أن تغرق السفينة “روسوس”، وقبل أن تتمكّن من مغادرة بيروت، تدخّلت السلطات اللبنانية، وبحسب قاعدة بيانات “لويدز” تمّ الحجز عليها بتاريخ 4/2/2014 بسبب عدم سداد فواتير قيمتها مئة ألف دولار. بعد ذلك تمّ السماح لبعض أفراد الطاقم بمغادرة لبنان، فيما أبقي على “بروكوشيف” وثلاثة من أفراد الطاقم، حتى تنبّه الاتحاد الدولي لعمّال النقل، فصرّحت “أولغا أنايينا” المفتشة في الاتحاد بتاريخ 28/3/2014 أن طاقم السفينة لم يعد لديه أي سبيل للعيش، وأن الطاقم على حافية الهاوية، وليس لدى الشركة التي يديرها “غريشوشكين” الأموال اللازمة لسداد ديون الطاقم، فضلا عن أن: “… الطاقم يشعر بالقلق لوجود شحنة خطرة للغاية في مخازن السفينة روسوس، وهي نترات الأمونيوم، والسلطات في مرفأ بيروت ترفض تفريغ هذه الشحنة، أو تحميلها في سفينة أخرى، ما يزيد الأمر تعقيداً”. وبعد ذلك، وتحديداً بتاريخ 23/7/2014 أشار موقع “فليتمون” المتخصص في الملاحة البحرية إلى المخاطر ذاتها.

قام طاقم السفينة ببيع جزء من وقودها من أجل سداد أتعاب المحامين، وبعد ثلاثة أشهر أطلق سراح أفراد الطاقم الذي أغلق مقصوراتها، وقام بتسليم المفاتيح إلى السلطات اللبنانية التي أفرغت فيما بعد حمولة السفينة التي غرقت في نهاية المطاف.

كان بإمكان السلطات اللبنانية القيام بالعديد من الإجراءات التي تكفي لتفادي الكارثة، كما لو أنها عملت على التخلّص منها بطريقة آمنة، أو توزيعها على المزارعين لاستخدامها كسماد، خصوصاً أن الشحنة لم يكن أحد مهتم بها، لكن ذلك لم يحدث، فكانت واقعة الانفجار المأساوي الذي عادل بحسب خبراء نحو طنين من مادة TNT، وبالمقارنة فقد كانت شدّة القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة على “هيروشيما” تتراوح بين (12) و(15) طن من المادة ذاتها.

ويبدو أن عدداً من المسؤولين اللبنانيين كانوا على علم بمخاطر المادة المخزّنة، فقد كان مسؤولو الجمارك على علم بالخطر، ما دفعهم بين عامي 2014 و2017 إلى إرسال نحو خمس طلبات إلى قاضي الأمور المستعجلة من أجل الموافقة على إعادة تصدير الشحنة، أو بيعها، لكن طلب القضاء المزيد من المعلومات، فضلاً عن بطء المراسلات، كان السبب في عدم القيام بأي إجراء جدّي حتى وقعت الكارثة.

الانفجار وقع، وما أن وقع حتى أخذت كل جهة تفسّر أسبابه وفقاً لرؤيتها ومصالحها السياسية، وهذا يذكّرنا بحادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق “رفيق الحريري” بتاريخ 14/2/2005، إذ وقبل أن تصل سيارات الإطفاء أو الإسعاف إلى مكان الحادث كانت سورية آنذاك قد اتهمت باغتياله، علماً أن منطق الأمور يشير بدلالات واضحة إلى أن سورية هي الأبعد عن إمكانية تحقيق أي هدف أو مصلحة من عملية الاغتيال هذه، فابتعدت الأنظار عن الفاعل الحقيقي، وتوالت سلسلة من الأحداث التي استثمرت بشكل سياسي تام، فأصدر مجلس الأمن قراراً يمثّل سابقة في تاريخ الأمم المتحدة لجهة ترسيم الحدود بين سورية ولبنان، كما أعيد انتشار الجيش العربي السوري في لبنان، وشكّت لجنة تحقيق دولية بقيت تعمل لسنوات على أمل الوصول إلى الحقيقة.

وما أن وقع انفجار بيروت حتى تعالت الأصوات التي تتهم هذه الجهة أو تلك، فمن يريد تحقيق مآرب سياسية داخلية، والاطاحة بالحكومة اللبنانية، نسب إليها مسؤولية الإهمال، وقد تكلل هذا المسعى بالنجاح، إذ اضطرت الحكومة اللبنانية إلى الاستقالة. ومن يعادي “حزب الله” بادر على الفور إلى توجيه الاتهام إليه، فهل للعقل أن يستوعب إمكانية أن يكون “لحزب الله” أي دور تخريبي في بلد نذر نفسه من أجل الدفاع عنها، كما أن مرفأ بيروت يشكل شرياناً حيوياً بالنسبة إليه. أما ما تسمّى “المعارضة السورية” في الخارج فلم يعنيها من الأمر كله سوى التركيز على مدى الفائدة التي ستتحقق من هذا الانفجار لجهة تطبيق ما سمّي “قانون قيصر” بحيث يكون أكثر فاعلية في خنق الشعب السوري والتضييق عليه، من جانبه رأى النظام التركي أن الفرصة سانحة أيضاً لاستغلال الموقف فأخذ يشيع أن حزب “العمال الكردستاني” كان يقوم بتصدير مادة “نترات الأمونيوم” إلى لبنان منذ سنوات…

وعلى غرار ما جرى في حادثة اغتيال “رفيق الحريري” تداعى البعض من داخل لبنان وخارجه إلى ضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية، ما يعني عدم الوصول إلى أي نتيجة عملية لسنوات عدة، واستنزاف مبالغ طائلة من الأفضل أن تنفق على إعادة بناء المرفأ، وهنا لا ضير من أن يترك الأمر إلى القضاء اللبناني للتحقيق في الموضوع، وهو ما تمليه طبائع الأمور، فهو جهة الاختصاص الأقرب إلى الواقع.

الملاحظ من السيناريوهات السابقة كافة أنها اتجهت في التحليل انطلاقاً من مصالح ذاتية ضيّقة، وأن قلّة من المحللين من حاول البحث في الأمر بشكل موضوعي منطقي بعيداً عن التسييس، فتفجير مرفأ بيروت يدخل في احتمالين لا ثالث لهما:

الأول: أن يكون التفجير ناجماً عن إهمال، وسوء تخزين.

الثاني: أن يكون بفعل فاعل، وهذا هو الأرجح.

أما عن سبب ترجيحنا للاحتمال الثاني فإن ذلك مردّه ما قال به بعض الخبراء المتخصصين، فقد صرّح “دانيلو كوبي” خبير المتفجرات الإيطالي المعروف في صحيفة Corriere الإيطالية أن الانفجار لم يكن بسبب “نترات الأمونيوم”، لأن لون السحابة التي أعقبت الانفجار كان برتقالياً، فيما يخلّف انفجار “نترات الأمونيوم” سحابة صفراء، هذا يعني أن اللون البرتقالي يشر إلى عنصر “الليثيوم” الذي يكون في الوقود الدافع للصواريخ، أي أن هناك انفجار أول أدّى إلى الانفجار الثاني حيث توجد مادة “نترات الأمونيوم”. وخلال مقابلة مع الجنرال الروسي “ستانيسلاف” مدير جهاز GRU أجرتها صحيفة “جازتيا” الروسية كان قد صرّح أنه: “لا يوجد تفجير دون فاعل له، وبطرق عديدة متوفرة…”.

هنا يثور السؤال عمّن له مصلحة حقيقية في أن يحدث في بيروت ما حدث، فوفقاً للتحليلات التي تابعت الأمر من قبل عدد من الخبراء والمختصّين يمكن أن يكون التفجير قد تمّ من خلال طائرة مسيّرة محمّلة بصاعق يتم تشغيله بطرق عدة من ضمنها التوقيت الرقمي، أو طائرة تجسس، أو من خلال مركب عادي يحمل مشغّله جهاز تحكّم عن بعد.

(الكيان الإسرائيلي) يمثّل الجهة التي لها مصلحة فيما حدث، وهي الجهة التي يجب أن توجّه إليها أصابع الاتهام، فقد كانت على علم بما يحتويه مرفأ بيروت منذ سنين طويلة، فضلاً عن أن كل ما كان يدخل المرفأ يجري توثيقه وإرساله مفصّلاً إلى (إسرائيل). هناك من يخطط إلى جرّ لبنان إلى حرب شعواء، والهدف هو “حزب الله” الذي يمثّل بالنسية إلى (الكيان الإسرائيلي) خطراً كبيراً، والملاحظ أن الطائرات المسيّرة لا تغيب عن الأجواء اللبنانية على مدار الساعة.

ويبقى السؤال هل يمكن الإشارة بوضوح إلى أن (الكيان الإسرائيلي) هو من كان وراء تفجير مرفأ بيروت، وخصوصاً إذا ما عهد بالتحقيق إلى لجنة دولية؟ أم أن القضية ستنسب إلى الإهمال فحسب؟ من جانبي أرجّح الاحتمال الأخير، وربما تكشف قادمات الأيام عكس ذلك، وتبيّن بوضوح حقيقة ما جرى.

أ‌. د. نجم الأحمد