دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب “جواسيس في الكونغو”

سمر سامي السمارة

منذ استخدام السلاح النووي لأول مرة في هيروشيما قبل 75 عاماً، وتحديداً في السادس من شهر آب 1945، لم يعرف العالم إلا القليل عن مصدر اليورانيوم المستخدم في صناعة القنبلة النووية والعملية السرية التي غلفت عمل الولايات المتحدة لصناعة هذه القنبلة. ظلت العملية تحمل كل هذه السرية إلى أن نشرت سوزان ويليامز المؤرخة في معهد دراسات الكومنولث في المملكة المتحدة عام 2016 كتابها “جواسيس في الكونغو” الذي كشف  للمرة الأولى القصة التفصيلية للسباق العميق بين الأمريكيين والنازيين للوصول إلى أخطر معدن على وجه الأرض.

في بداية الحرب العالمية الثانية، عندما أطلقت الولايات المتحدة مشروع مانهاتن السري للغاية، أنتجت المناجم في أمريكا الشمالية ومعظم أنحاء العالم خام بنسبة أقل من 1 % من اليورانيوم، والتي اعتبرت غير كافية لصناعة أول قنبلة ذرية. بينما كان هناك منجم وحيد في العالم تمّ وصفه بأنه نزوة من الطبيعة، وصلت نسبة الخام فيه إلى 65 ٪ من اليورانيوم. إنه منجم “شينكولوبوي” في جمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية. كان لمنجم “شينكولوبوي” دور مهم في أحد أكثر الأحداث عنفاً ودموية في التاريخ الحديث، لأنه كان تقريباً مصدر كل اليورانيوم المستخدم في مشروع مانهاتن، الذي أنتج القنابل التي ألقيت على اليابان في الحرب العالمية الثانية. لكن لا تزال الصلة بين “شينكولوبوي” وهيروشيما غير معروفة لدى الغرب والكونغو وحتى في اليابان بين الناجين القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة. كما تم تجاهل، الصلة بين العواقب الصحية الكارثية التي ترتبت على عمال المناجم الكونغوليين الذين تعاملوا مع اليورانيوم، إذ أنهم كانوا مستعبدين لعملاق التعدين البلجيكي شركة “يونيون مينيير” التي احتكرت منجم “شينكولوبوي” في الكونغو البلجيكية آنذاك.

يرى محللون أن النازيين لم يكونوا قد قطعوا شوطاً كبيراً في سعيهم للحصول على القنبلة بسبب نقص اليورانيوم العالي التخصيب، وأن الأمريكيين لم يكونوا على علم بذلك في العام 1939، وجل ما كانوا يخشوه أن يحصل هتلر على سلاح نووي قبلهم، الأمر الذي  سيؤثر بشكل مؤكد على نتيجة الحرب.في بداية العام نفسه كان ألبرت أينشتاين  قد كتب للرئيس فرانكلين روزفلت لإسداء النصح له بشكل غير مباشر لإبعاد النازيين عن “شينكولوبوي” وتأمين اليورانيوم للولايات المتحدة.يروي كتاب “جواسيس في الكونغو”، الذي يتصف بحثه بالدقة والمنهجية، الحكاية المعقدة لوحدة خاصة من مكتب الخدمات الإستراتيجية الأمريكي، وهي وكالة استخبارات أمريكية سابقة، تم إنشاؤها لشراء ونقل كل اليورانيوم سراً من “شينكولوبوي”، وضمانه لصالح الولايات المتحدة.

ترأس الوحدة في واشنطن مدير مكتب الخدمات الإستراتيجية ويليام وايلد بيل دونوفان، ورود بولتون، رئيس قسم أفريقيا في مكتب الخدمات الإستراتيجية. كان دونوفان مهووساً بمنع النازيين من الحصول على القنبلة، بالإضافة إلى عدم ثقته بدور بريطانيا -التي تخشى من محاولة الولايات المتحدة السيطرة على مستعمراتها في غرب إفريقيا- في عملية تعدين اليورانيوم. وبحسب سوزان ويليامز، قام دونوفان بتدريب عملائه على استهداف النازيين فضلاً عن المستعمرات. استخدم العملاء، التابعون لمكتب الخدمات الإستراتيجية، بعض التسميات للتغطية على عملهم، مثل: علماء الطيور، وعلماء الطبيعة، ومستوردو الحرير، وتظاهروا بأنهم مدراء تنفيذيون لشركة نفط “تكساكو”. إلا أن هذا الأمر تحول إلى مشكلة بعد أن أُجبر رئيس شركة “تكساكو” توركيلد ريبر على الاستقالة في عام 1940 بسبب تهريبه النفط للنازيين والتعاقد مع الألمان الذين تبين أنهم جواسيس “يقومون باستخدام شبكات اتصالات تكساكو الداخلية لنقل المعلومات الاستخبارتية إلى برلين”.وتذكر سوزان ويليامز أيضاً أن الجواسيس الأمريكيين واجهوا صعوبات في أنشطتهم في الكونغو الفرنسية والمستعمرات الأخرى التي يسيطر عليها الجنرال شارل ديغول القائد العام لقوات فرنسا الحرة، لأن الولايات المتحدة اعترفت بحكومة فيشي أثناء غزو نورماندي.

يركز كتاب ويليامز المثير على قصة التجسس في حياة عدد من عملاء مكتب الخدمات الإستراتيجية الذين شاركوا في تأمين اليورانيوم، ومنع النازيين من الوصول إلى المنجم الفريد في مقاطعة كتانغا في الكونغو، وهي مهمة سرية للغاية اعتقد معظم العملاء المتورطين فيها أنهم كانوا يمنعون تهريب الماس، وفي الوقت ذاته لم يكن عملاء مكتب الخدمات الإستراتيجية –القلائل- ممن عرفوا أن ما تسعى إليه الولايات المتحدة هو اليورانيوم.تم وضع اليورانيوم على متن طائرات أمريكية أو على متن سفن متجه إلى نيويورك، لتفريغ حمولتها وتم تخزين 1200 طن في مستودع في مدينة نيويورك بجزيرة ستاتين. حيث بقي اليورانيوم هناك إلى أن تم نقله بالقطار إلى مختبر لوس ألاموس في نيو مكسيكو، حيث كان العلماء يطورون القنبلة. وهنا لابد لنا من الإشارة إلى أن مركز نيويورك تحت جسر بايون لا يزال يسجل مستويات إشعاع عالية.

وتكشف سوزان ويليامز أيضاً أن مهمة الولايات المتحدة كانت بالغة الصعوبة، بسبب بعض المسؤولين البلجيكيين في الكونغو وشركة “يونيون مينيير” ، لتعاونهم مع النازيين لتهريب بعض من الخام الفتاك. وتقول ويليامز: إن الولايات المتحدة علمت بعد استسلام الألمان أن النازيين كانوا بعيدين عن إنتاج قنبلة ذرية.

بعد يوم النصر، حاول أينشتاين إقناع ترومان إغلاق مشروع مانهاتن، ولكن الأوان كان قد فات، وعلى الرغم من اعتراض الجنرالات دوايت أيزنهاور ودوغلاس ماك آرثر وثلاثة من كبار القادة العسكريين الأمريكيين استخدام القنبلة، إلا أن ترومان أسقط القنبلة على أي حال، ليس لإنهاء الحرب وإنقاذ الأرواح، كما يذكر العديد من المؤرخين الآن، ولكن لاختبار السلاح وإرسال رسالة إلى العالم، لا سيما الاتحاد السوفييتي السابق، حول هيمنة أمريكا القادمة. يقول: “كان اليابانيون مستعدين للاستسلام، ولم يكن من الضروري أن نضربهم بهذا الشيء الفظيع”.على الرغم من أن عميل مكتب الخدمات الإستراتيجية هوغو لم يكن يعرف الغرض من استخدام اليورانيوم، إلا أنه كان يعلم أنه في مهمة شديدة الخطورة، وعلى الرغم من أنه نجا من الحرب فقد استسلم لسرطان المعدة في سن 42.وأشارت الكاتبة إلى أن: “عوامل الخطر لهذا المرض تشمل التعرض للإشعاع، وهو ما يفسر لماذا كان الناجون من القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية أكثر عرضة للإصابة بسرطان المعدة”.إذ توفي أيضاً زميلان آخران لـ هوغو من بعثة مكتب الخدمات الإستراتيجية في الكونغو في سن مبكرة جداً، حتى أن قلق سوزان وليامز يشمل أيضاً عمال المناجم الكونغوليين الذين لم يحصلوا على أي اهتمام: “من المدهش أنه لم يتم توجيه أي اهتمام تقريباً للكونغوليين، ولم تتم استشارة أحدهم بشأن خطط صنع قنابل ذرية باستخدام يورانيوم “شينكولوبوي”. ماذا كان يمكن أن يكون رد فعلهم لبناء مثل هذا السلاح المدمر والرهيب بمعدن من أراضيهم؟”. وتسأل وليامز “ماذا سيكون رد فعلهم اليوم، إذا تم الكشف عن التضليل والكذب وكشف التاريخ الحقيقي الكامل؟”. “لم يتم إخطار الكونغوليين بمخاطر الصحة والسلامة الرهيبة التي يتعرضون لها، ببساطة كانوا يستخدمون كعمال، دون الحصول على أدنى حقوق الإنسان، وتتحمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلجيكا كل المسؤولية”.