مجلة البعث الأسبوعية

الصراع على سرت والجفرة.. هل وصلت الحرب في ليبيا إلى اللحظة الحاسمة؟

“البعث الأسبوعية” ــ سنان حسن

بعد سنوات شهدت خلالها المدن الليبية شتى أنواع القتل والتدمير والفوضى والإرهاب، يبدو أن الحرب وصلت إلى اللحظة الحاسمة والمصيرية، وهي الصراع على الموارد النفطية، فكل الأطراف تريد حصة في كعكة الطاقة الليبية الدسمة، وكل فريق يعلن عن نفسه وصياً عليها، ويدعي أنه الأحرص على إدارتها وصون أموال الشعب الليبي، وإن كان النظام التركي هو الأكثر وقاحة في إعلان نواياه للسيطرة على المراكز الحيوية التي تضمها مدينتا سرت والجفرة خزانا ليبيا النفطي.

 

الوطن الأزرق

في عام 2006، وخلال ندوة في مركز قيادة القوات البحرية التركية طرح الأدميرال رمضان جيم غوردينيز رؤية لفرض سيادة تركيا على مساحات كبيرة من البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود تحت عنوان “الوطن الأزرق”، فتركيا – من وجهة نظره – فقدت الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرتها بسبب معاهدة سيفر عام 1920، وهي أيضاً تتعرّض في الوقت الراهن للظروف ذاتها، ولكن في البحر حيث يسعى خصوم أنقرة في اليونان وقبرص ومصر لتقليص نفوذها البحري وحصره في شريط مائي ضيق حول سواحلها؛ ولما كانت تركيا بحاجة ماسة إلى موارد الغاز البحرية الجديدة حيث كانت الكشوفات النفطية والغازية في شرق المتوسط مغرية وقادرة على سد حاجاتها المتزايدة فإنها شرعت في تعديل إستراتيجيتها البحرية واستدعت فكرة “الوطن الأزرق” سعيا لفرض سيطرتها على مساحة تبلغ 462 ألف كيلومتر من الأراضي البحرية في شرق المتوسط وإيجة، وعليه فإن تنفيذ الخطة الجديدة سيبدأ من ليبيا وسواحلها.

 

ترسيم الحدود البحرية

قبل نهاية 2019، وفي ظروف مريبة، تم الإعلان من اسطنبول عن اتفاق ترسيم حدود بحري بين النظام التركي ومليشيا الوفاق الإخوانية، وتم بموجبه منح أنقرة امتيازات لم يتكشف حتى الآن عن حجمها ومراميها لأنه مع كل تطور جديد في ملف الأزمة الليبية يخرج بند جديد منه إلى العلن، والتي كان آخرها منح المصرف المركزي الليبي نظيره المركزي التركي 8 مليار دولار وديعة إضافة إلى 3 مليارات كتعويض للشركات التركية التي تضررت مما يجري في ليبيا من أحداث منذ عام 2011.

وقد بدأت بوادر الخطة التركية في السيطرة على الشواطئ الليبية مع بداية العام الجاري، حيث قامت أنقرة بدعم مليشيا الوفاق بالمرتزقة والسلاح من خلال فتح جسر جوي بين اسطنبول والموانئ والقواعد العسكرية التي تسيطر عليها الوفاق وكانت النتيجة استعادة هذه المليشيات للكثير من المدن والبلدات التي حررها الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، بداية من فك الطوق الذي كان مفروضاً على العاصمة طرابلس وصولاً إلى مدينتي سرت والجفرة. وهنا بدأت فصول معركة جديدة لانتزاع السيطرة على المدينتين الإستراتيجيتين اللتين تمثلان لأردوغان ونظاميه الإخواني باباً ثانياً للتمويل وتغطية تكاليف مشاريعه الممتدة من وسط آسيا إلى شمال إفريقيا ووسط أوروبا، فالمحفظة المالية لمشيخة قطر على ضخامتها لا تكفي لكل ذلك، لاسيما إذا علمنا أن سرت والجفرة بما تكتنزانه من مخزون ليبيا الاستراتيجي من النفط والغاز تعدان جائزة كبرى إذا ما استطاع السيطرة عليهما.

 

خط أحمر

المشهد الليبي الناشئ حرض القاهرة على السعي لدرء الخطر مع اقتراب المليشيات الإخوانية المدعومة بقوات خاصة تركية وطائرات مسيرة إلى أطراف مدينتي سرت والجفرة، حيث أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وخلال حضوره مناورة “حسم 2020″، أن الاقتراب من الجفرة خط أحمر للأمن القومي المصري، لتأتي بعدها مباشرة عملية تفويض مصر للتدخل عسكرياً في ليبيا شعبياً من بوابة أعيان ومجالس القبائل الليبية ورسمياً من مجلس النواب الليبي برئاسة عقيلة صالح، فكانت النتيجة التوقف على حدود المدينتين واستمرار حشد المرتزقة والإرهابيين الذين تم نقلهم من الشمال السوري إلى جبهات القتال حيث قدرت المراكز الإحصائية عددهم بأكثر من 18 ألف مرتزق بينهم 2500 إرهابي من داعش.

 

منزوعة السلاح

وفيما الجولات المكوكية متواصلة لكي تستعيد ليبيا عملية ضخ النفط المتوقف بأمر من البرلمان في طبرق وبحماية من الجيش الوطني بقياد حفتر، كان لقاء روما الذي ضم فرنسا وأمريكا وألمانيا وممثلية الأمم المتحدة في ليبيا، إضافة للبلد المضيف، وعلى رأس أولوياته إعادة إنتاج النفط وإيجاد حل للصراع القائم، وفي هذا الإطار، قدّمت واشنطن مقترحاً بأن تكون سرت والجفرة منطقة عازلة بين الجيش الوطني الليبي ومليشيا الوفاق والأتراك والمرتزقة، وتفريغ المنطقة من أي من الطرفين ويكون انسحاب الجيش الليبي دون ضمانات أو شروط لاتفاق وقف إطلاق النار وتتواجد قوات دولية لحماية المنطقة. في الأثناء، كان أردوغان يرتب مع مليشيا الوفاق الآليات التي تضمن أن تكون الشركات التركية هي المسؤولة عن إعادة إنتاج وتسويق النفط الليبي.

 

توافق مضطرب

في ضوء التصعيد المتواصل، أطلق رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح دعوة لوقف إطلاق النار أكد فيها على ضرورة حقن الدماء مستنداً إلى إعلان القاهرة وبنود مؤتمر برلين ومطالباً بضرورة إخراج المرتزقة وإنشاء مجلس رئاسي جديد يكون مقره في مدينة سرت وبحماية قوات موحدة على أن تبدأ بعدها عملية دمج المؤسسات وإعادة تشكيلها وفق عقد جديد بين الليبيين.

ورغم أن المبادرة المعلنة تحمل مبدئياً بوادر أمل لليبيين وفرصة جديدة لوقف شلال الدم المتدفق منذ عشر سنوات، إلا أن نوايا وأهداف القوى المتورطة في الأزمة محلياً وإقليمياً ودولياً تبقى هي العامل الرئيس إما في ترجيح نجاحها أو فشلها.

عملياً يمكن القول إن الطرف الخاسر الأكبر من المبادرات المعلنة هو الجيش الوطني الليبي وحلفاؤه كون المبادرات لم تضع حلولاً لإخراج المرتزقة الذين استقدمهم أردوغان من شمال سورية، ووزعهم على جبهات القتال، كما وأنها تمنح مليشيا الوفاق الفرصة لإعادة ترتيب أوراقها سياسياً وعسكرياً، والأمر ينطبق على أردوغان الذي يحاول استثمار قبول مرتزقته في طرابلس بوقف إطلاق النار على أنها مبادرة للسلام، ولكن هل بالفعل يريد السلام في ليبيا كما يدعي؟

 

مصلحة أردوغانية

إن وقف إطلاق النار في ليبيا الذي تمت الدعوة إليه يتعارض مرحلياً مع خطة “الوطن الأزرق التي تبناها أردوغان وسعى لإنفاذها من خلال تدخله في ليبيا ومحاولات كسر العظم مع اليونان ومصر للسيطرة على المنطقة البحرية في شرق المتوسط ، ولكن يعطيها تالياً فرصة للحياة من جديد، وعليه يمكن القول إن أردوغان سيوظف التوقف القائم حالياً في جبهات أخرى بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض على سرت والجفرة للسيطرة عليهما، ولاسيما وأنه مازال ينقل بطائراته الحربية المرتزقة الإرهابيين تمهيداً لجولة جديدة يتمكن فيها من الوصول إلى الحدود المصرية.

أمام كل ذلك يبقى الأمل يحدو الليبيين بأن يحل السلام قريباً على بلادهم التي تكالبت عليها كل القوى طمعاً في ثرواتها، فهل تجتاز ليبيا هذه اللحظة المصيرية إلى بر الأمان أم أنها على موعد مع جولة وربما جولات لحسم الصراع.

___________________________

 

ما هو الوطن الأزرق؟

الوطنُ الأزرق عقيدة تركيّة تزعمُ ولايةً بحريّة واسعةً النطاقِ في البحار الثلاثة (إيجة، المتوسط، الأسود). وأول من طرحها الأدميرال رمضان جيم غوردينيز، في حزيران 2006، وهو متطرف كلاسيكيّ مهووسٌ بالتفوقِ البحريّ التركيّ، ويرأس منتدى كيه يو البحريّ للبحوثِ بجامعة كوج.

اُعتقل غوردينيز عام 2011 بسبب ما قيل حول صلته بشبكةِ أرغنكون، وأدين وقتها وحُكم عليه بالسجنِ لمدة 18 عاماً، وأطلق سراحه في 2015، ثم ارتفعت أسهمه وبدأ الإعلامُ التركيّ بتلميعِ صورته ونشرِ مواقفه “القوميّة” المعادية للغربِ، والدعوةِ لبناءِ علاقاتٍ عميقةٍ مع روسيا والصين.

تتضمنُ عقيدةِ الوطن الأزرق بذل كلَّ الجهودِ لإظهارِ قوة تركيا في البحر المتوسط والتمددِ في الخليجِ والبحر الأحمر، وإنشاء قواعد عسكريّة في قطر والصومال وقاعدة بحريّة مزمعة في جزيرة سواكن السودانيّة.

وقال غوردينيز عام 2013: سطحُ هذا الوطن وجسمه المائيّ وقاعُ البحر والكتلة الأرضيّة تحت قاع البحر ملكٌ لنا. حجمُ هذا الوطن يساوي نصفَ مساحة أرضنا (نحو 462 ألف كم2).

يعتبر غوردينيز وأتباع عقيدة الوطن الأزرق أنَّ الوضع الراهن يمثّل معاهدة سيفر الثانية

في إشارة إلى المعاهدة التي قسّمت تركيا بين القوى الغربيّة التي فُرضت على الدولة العثمانيّة بعد هزيمتها بالحرب العالمية الأولى. وبالنسبة للأدميرال المتقاعد، فإنّ قبرص ولايةٌ بحريّةٌ تركيّة تنافسُها اليونانُ عليها.

خلال حديثه في حلقة نقاشية نظمتها منظمة التراث التركيّ في الولايات المتحدة، في أيار 2019، قال غوردينيز: ثمّة ثلاثة أبعاد أمنيّة حيويّة للجغرافيا السياسيّة التركيّة في البحر المتوسط: التحديات اليونانيّة على مناطق الولايةِ البحريّة التركيّة وإمكانيّة استقلال كردستان مع حرية الوصولِ إلى البحر المتوسط ومستقبلُ شمال قبرص مع الآثار الجيوسياسيّة بالنسبة لتركيا.