الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عود.. عاد.. عيد!؟

د. نهلة عيسى

مثل لصة، أتسلل على رؤوس أصابعي نحو العام الجديد من عمري، خوفاً من إيقاظ العام “البوم”، التعيس الذي قد مضى، والذي أظنه لو صحا، سيصر مثل ثقيل ظل “دلوع أمه” على مرافقتي إلى الأيام القادمة، بحجة أنه محبوس، ومحجور، ويحتاج إلى تسلية! وأعتقد، واعتقادي هنا يطاول اليقين، أنه مثل كل مرافق غليظ، سوف يحوّل الرحلة إلى نقمة، وسوف أقضي الوقت أعتذر من عامي الجديد عن اصطحابي مكرهة للعام الذي مضى، وألملم شظايا البلور، وأكياس “الشيبس”، وفتات الخبز، من خلف “الطفيلي”، وأتمتم بالدعوات عليه في سري، وأبتسم!؟.

اليوم عيد ميلادي، أجلس أمام المرأة مثل متهمة أمام محكمة على عينيها نظارتان سوداوان، وعلى شفتيها ابتسامة سخرية من كل ما يجري وجرى!؟ أجلس وكأنني أتحدّى المرأة أن تستفزني أنني عاماً جديداً قد كبرت، وأنني ربما أقترب من الدخول في عداد من توجّه لهم من الأجيال الأصغر عبارات الاحترام “السمج”، والتي تشبه صلوات الشيوخ فوق القبور “من التراب وإلى التراب”: خالة، والله يطولنا بعمرك … الخ، وأتدرّب متحفزة منذ الآن على الرد السريع: يخل عضامك أنت وهو!!.

اليوم عيد ميلادي، ومرآتي تواجهني، وفي ذاكرتي حوار دار بيني وبين ضيفة زارتني في مكتبي منذ أيام قليلة، كانت جارة لنا منذ زمن طويل، وكنت لا استلطفها منذ ذاك الزمان، وأخوض معارك شعواء مع أمي وهي تجرّني جرّاً للسلام عليها كما يجب على البنات المهذبات في جيلنا المقهور، وكان صوتي يعلو عمداً على أمل أن يطاول سمع الضيفة، وأنا أخبر أمي: أنني أكره هذه السيدة، فهي انتهازية، لا تزورنا إلا لمصلحة، متكلّفة، ومصطنعة، ونمّامة، ومدّعيّة، ومصبوغة مثل “آيس كريم” رخيص الثمن، يذوب ما أن تضعه في فمك، مخلفاً وراءه صبغة فاقعة على الشفاه، وفي الفم صقيعاً!؟.

المهم، هذه السيدة الشبح من الماضي البعيد، لا أعرف من أين نبشتني، وداهمت مكتبي مثل عاصفة محمّلة بغبار الطلع المثير للعطاس والكحة، وصفعتني بعشرات القبلات، محشورة في ملابس ضيقة، مشدودة الوجه مثل الورق المقوى، ومنفوخة الشفاه ولا “أليسا”، لدرجة أن شفاهها لم تستطع الإمساك بفم فنجان القهوة، فشرقتها شرقاً، ووصل صوت الشرقة حتى ساحة الأمويين!؟ ناهيك عن استلامها زمام الحديث، والتجوال بالكلام شرقاً وغرباً، هذا لا يعجبها، وذاك لا يجوز، وتلك عيب عليها، إضافة لعتابها المر لي حول خطيئة لا تغتفر: كيف لم أملأ التجاعيد الصغيرة حول عيوني “بالبوتوكس”، ولماذا لا أضع قليلاً من الحمرة!؟وأنا.. البريد أمامي أطلع عليه وأوقعه، وأهز رأسي لها كبندول الساعة بانتظار أن تحمل ظلها الثقيل وتمضي!!.

ومضت ساعة ثم أخرى، بعدهما.. دخلت في حقيقة دواعي الزيارة، بادئة الكلام باعتصار عينيها بحثاً عن دموع تدعيها حزناً على والدتي.. صديقتها، ومن ثم طالبتني برحمة أمي أن أجد عملاً لابنها الصغير “فرخ الكنغر، الفاشل دلوع الماما”، مكملة الثرثرة عن أن الحياة باتت صعبة، وكل الأشياء غالية، وأنها ما عادت قادرة، وأنها محبطة، ومن صغيرها يائسة، فوصل الكلام إلى رأس لساني أكثر من مرة، ولجمته كرهاً: يا خالة، تكاليف عمليات تجميلك كانت أكثر من كافية لفتح مشروع لصغيرك!؟.

اليوم عيد ميلادي، وكل ما يجري حولي وحولكم، ولي ولكم، وكل الكلام، والوعود، والمشاريع، والوعود بالإصلاحات، شبيه بتلك السيدة، ثرثار، فاقع، متكلّف، مصطنع، مدعي، وخاوي، وبائس، ومرقع بعمليات تجميل فاشلة، وموجع كمسير إرغامي في حقل من الألغام، يتفتت فيه الواحد منا فوق مئات التفاصيل الصغيرة التافهة مثل حجر رملي، وبنفس الوقت يتفتت خوفاً من ألا يصل، ولذلك في يوم ميلادي وأمام مرآتي، ووسط حقل الألغام، ويدي في أيديكم جميعاً، أغمض عيناي، واستسلم لطمأنينة أننا معاً، وأردد في سري، عود، عاد، عيد، وأوقن أنني معكم سوف أعبر وأصل.