ثقافةصحيفة البعث

لصمته حديث الروح..!

كانت تشعرُ بلهيب في عنقها يذكّرها بتلك الإغماءة الصغيرة في طفولتها، حين كانت تنام فوق العشب، وتبتلع خيوط الشمس التي كانت عادة تداعبها، لكنها في ذلك اليوم كانت كسوط يلسع جلدها ويقشرهُ ببطء. أدارت عينها لتلتقط شيئاً حدث في تلك اللحظة، إذ بينما المخرج يدرّبها على دورها، كان هناك شخص آخر بجانبه هو من يبعث ذلك اللهيب، التقت العينان، وللتو نسيت المشهد الملعون الذي كانت تردّده، وذابت في المشهد الآخر، كان شيء ما يحدث على ضفة أخرى. توقف كل حيّ عن التنفس، وسمعت دقات قادمة من مكان بعيد، فلم تعد تسمع المخرج، ولم تعد ممثلة في تلك اللحظة. كانت تعود لذاتها، هذه العيون الحارقة ترسل أشعتها بصمت ولا تنطق، أرادت أن تقول شيئاً، أن تستعيد المشهد، لكنه انشغل بالخيوط الضوئية التي يرتّبها، وكان المخرج يقول لها: إنه مهندس الصوت الجديد، هذا الرجل المهذب.

حيّته بلطف، كان يجيب بإشارة من رأسه فقط والخيوط في يديه وخيوط أخرى يبعثها دافئة من عينيه، كانت تستقبل الخيوط التي تهمّها وتلسعها وتعود إلى المشهد الصامت الذي تؤديه، كان دورها في هذا الشريط سيدة خرساء، وكانت تتدرّب على الإشارة والصمت والتعبير بالجسد. كان عليها أن تنطق من خلال الصمت، وأن تخترع لغة أخرى للكلام وكان هو يستمع إلى صمتها، وهي تستمع إلى صمته وكأنه أصبح جزءاً من المشهد، وبدأا يتبادلان الصمت لغة أخرى..

كان صمتاً محضاً، وكان إصغاء خالصاً، تصغي لهدوئه الذي يبعثُ اللهيب وتشعر باحتراق غريب جداً.. في تلك اللحظة أصبح جزءاً من المشهد بعينيه اللتين تطلان بداخلها، وكأنها تقرؤه، صارت تنظر إليه وهي تناوش لغات الأصابع واليدين وأصوات غير مفهومة تجسّدها، وتنظر إليه مجدداً تقتبس منه النار التي تحترق من خلالها وتئنّ بكل ما في صدرها. كان هو يتغيّر، وكانت ملامحه تتخذ شكلاً آخر، وكأنه معها في المشهد، كان صمته كلمات هاربة مشردة لا يعرفها أي قاموس، كانت تذعنُ لمحرابها الخاص الذي يقول دون أن ينتظر. هذا القول يثرثر بالعينين اللتين ترسمان خارطة لوطنٍ غير موجود، وطن جديد فرح بذلك التواعد على أرض هاربة. هل يمكن أن يحدث ذلك؟ هذا الجلاد المشتهى الذي يلسع وهي سعيدة بلسعاته المنفلتة من العقال. أنهت المشهد، كان المخرج يحييها بقوة، وكانت تنظرُ إلى الصامت قبالتها والمتحدث بعيون لا نهاية لها، كان يتقنُ هندسة الصمت وكأنه بذلك يمرّ إلى هندسة الصوت، أو أنه كان يصغي إلى الصوت، ويحترم الأصوات التي تتكلم في محرابه، لكنها حين اقتربت منه لتناوله فنجان قهوة، لم يتكلم وإنما حيّاها بإشارة صغيرة من رأسه وأرسل بطاقة خاصة من عينيه، كانت ترغب في أن تقول شيئاً، لكن الوشاح الذي كانت ترتديه سقط على الأرض، أعاده إلى كتفيها ولمست يده عنقها.. شيء خاص يسري في الجسد ويشدّ الوتر، شيء يريد أن يصعد، يمزج بين لذة وألم غريبين، أرادت أن تنسى هذا الوجع اللذيذ لكنها لم تستطع، بدأت تنصت إليه وكأنه ألم قديم يستغيث بها أن تجعله يغادر هذا المكان، وكانت تشعر به يلتقي مع الأصابع التي لمست عنقها، وكانت تراه يرغب في العودة، لكن الأصابع بدأت تروّضه وكأنها ترتاض بخفة من يصل إلى التحرّر منه، ورأت الألم خارجاً من روحها، وأحسّت أن داخلها يستعيد كل خيوطه، وكأنها تعود إلى أماكنها بهدوء تام.

كيف يحدث ذلك؟ كيف حرّرها دون أن يكلمها؟ كيف أعاد هندستها وكأنه يحسن فن التقاط الأصوات عبر الصمت، هل لأنه اعتاد ترويض الخيوط انتقل إلى ترويض الأعصاب البشرية؟!.

لم تعد تدري ما الذي يحدث، وكأنها اليوم تستقبل زوبعة في فنجان الصمت، انسابت معه، وتعلمت منه الكلام الكثير عبر لغات الإذعان للآخر، وأحسّت كم يكلمنا الآخرون كلاماً كثيراً دون أن يقولوا شيئاً. هل “تعطّلت لغة الكلام”؟ هل “خاطبت عيناها بلغة الهوى عينيه”؟ هل كان بداخلها قبل أن تراه؟ هل كانت تنتظر أن تعشق، لذلك انسابت مع صمته؟ هل حين يتكلم لن يقول شيئاً وينسحب من داخلها؟.. كان عليها أن تروضه لكي ينطق، لكي يتكلم. لقد علمها صمته كيف تجسّد السيدة الخرساء التي تنبت الحب في قلوب الآخرين دون كلام، بأحاسيسها وانفعالاتها التي ترسلها عبر اليدين والعينين والجسد الذي ينطق دون أن يتكلم، وعليها أن تسمع كلامه الذي سيكون جميلاً؛ هذا المشتغل بالصوت وهندسته. كانت تبحث عنه، وكانت منشغلة بخيوطه الكثيرة التي تحضرها معه اليوم، كان هو منشغلاً بشيء ما، ذهبت لتتفقده. كان منهمكاً في تخطيط شيء ما، اقتربت أكثر، صارت هناك في الخطوط، رأت نفسها وقد انتقلت بأحزانها وفرحها في ورقة يرسمها فوقها، كان هناك حزن بجانب الشفتين اللتين رسمهما وكأنه كان يشعر بألمها، نظرت إلى الشكل الموجود على الورق، كانت هناك وكانت أحاسيسه هناك أيضاً، فقد أحسّ بوجعها ونقله على الورق!. نظرت إليه وقالت له: أنت فنان الصوت أم فنان الصمت؟.. كان يبتسم ابتسامة هادئة، وكان يبعث لها لحناً صغيراً من عينيه وكأنه يراقصها دون أن تدري، استنشقت الهواء وأحسّت بشيء ما، كان المخرج ينظر إليها، سألته: لماذا لا يكلمها؟.

قال لها: هو أخرس.

شهقت بقوة، وصمتت طويلاً وهي تتألم وقالت لنفسها: كيف يكون أخرس من يمتلك كل هذه الألوان وكل تلك اللغات وفن الصمت.. ويحسن تحويل الألم؟.. صمته يقول أشياء كثيرة لا يقولها الكلام.. لصمته حديث الروح للروح!!.

لينا أحمد نبيعة