ثقافةصحيفة البعث

عبد الناصر الحمد.. الغائب الحاضر

منذ أيام عدّة وأنا أختبئ خلف بوابة صمتي، بعدما ختمت الحيرة شفتي، فتذرعت بالسكوت خشية أن يفضح الرنين وهج حنجرتي.. منذ أيامٍ عدة.. وأنا أعمل فلاحاً في بستان الكلمة مستنجداً بسنارة قلمي كي تصطاد لأفنان سطوري عصافير كلمات تليق بصاحب الوداد وضفة الفرات الثالثة.

الشاعر الفراتي الراحل عبد الناصر الحمد، ها أنذا يا صاحبي أستجمعُ بقايا شجاعتي لأكتب باليباس عن المطر، وبالسديم عن صفاء الروح وخلود حروفها المعتّق من ماء الفرات الخالد.

أتذكرُ قبل أيام عندما مازحتك عن رحيل الشعراء في جلستنا المسائية اليومية، تبسّمت وقتها وقلت: الشاعر الألماني فون تومل 1824 طلب أن يدفنوه في جوف شجرة، الشجرة مازالت حية.. والشاعر البريطاني شيللي 1822 مات غرقاً عندما أحرقوا جثته لم يحترق قلبه، فحملته زوجته معها في كل مكان، الشاعر الأمريكي هوثورن كان يتشاءم طوال حياته من الرقم (64) فكان يحذف الرقم (64) من كتبه ودواوينه ومذكراته ويكتب (63 مكرر) مات سنة 1964.

فجأةً توقف عبد الناصر عن الحديث ليرتشف ما بقي في فنجانه من بن، وليلتفت إليّ وكأنه ينتظر مني هذا السؤال مع ابتسامة تشبه نسيم الدير عندما يلامسُ ضفاف الفرات، قلت: عبد الناصر متى يموت؟.. قال: الأمر بيد الله، ولكن، أظنّ من كتب “العشرين عام” لم يتعداه العمر 2020، كأن الجواب على براءته وعفويته صدمة لم أفق من وقعها إلى هذه اللحظة.

لا يا صاحبي الشعراء لا يموتون، ولن تغيب الشمس على أرضٍ نمت بماء حروفهم حباً وألماً ووجعاً، صاحب الصبر على مر الأيام والأزمان، ألم تسمع أغنية الشاعر الأمريكي بوب ديلان (عندما يموت الشاعر، يدفنون نجمته في حقل شاسع، في حقل قمحٍ شاسع، ولهذا نعثر في هذا الحقل الشاسع على زهر توت بري، لذلك لا تصدقوا موته، الشعراء لا يموتون).

رحل عبد الناصر الحمد، تاركاً إرثاً كبيراً في الشعر والتأليف والبحث والأسفار والتراث، إلى جانب العمل الذي جمع به بين المهنة والموهبة من خلال كتاباته في الصحافة والإعلام.

رحل صاحب “العشرين عام”، هذه الأغنية التي أصبحت سفيرة الفرات إلى كل بيت عربي من الخليج إلى المحيط، بكلماتها الفراتية الأصيلة التي أبدع في غنائها الكبير سعدون جابر، فكانت فاتحة الطريق لكتاباته الشعبية إلى عالم الفن والأغنية.

رحل عبد الناصر وبدأ السباق الكبير في تناقل الخبر على صفحات من لا يعرفون الشاعر إلا عند موته، رحل الرجل الفراتي البسيط، مثل لون الحلم في عيون محبيه ودون سابق موعدٍ مع الرحيل، رحل بعيداً عن دروب الدير التي أحبها وحمل ترابها معه في حله وترحاله، فهذا مقطع كتبه في المرحلة الثانوية كان يفتتح الحديث به في كل جلسة: “أنا رجل فراتي، بعيداً عن دروب الدير ما أحسست بالعمر، مساماتي فدادين لبذر الآه والشكوى، وأحداقي كينبوعين من حزنٍ ومن بلوى، ويغفو بين أهدابي احتراقٌ مزمنٌ ورؤى، أنا رجل فراتي”.. رحل عبد الناصر وبقيت وحيداً دون صديق أو خليل.

رحل عبد الناصر وصعد عالياً حيث أبجدية الماء، غيمٌ وحويقةٌ وذكرى صبي معفّر بتراب الحقل، يبني بيتاً غامضاً سقفه شعر على مقام نهر خطّته الأبدية دون سابق موعدٍ مع الطبيعة، حيث الماء كتاب وسؤال، وقصيدة فارسها رجل فراتي لم يمت.. عم صباحاً يا صديقي.

علي فرحان الدندح