رأيصحيفة البعث

عن التطبيع.. والتاريخ في مساره “الطبيعي”..!!

بكلمات مباشرة، وقد تكون صادمة للبعض، لا شيء غير “منطقي” في قضية تطبيع مشيخات الخليج مع الكيان الصهيوني، فالتاريخ هنا “يسير بهدوء في مسيره الطبيعي”، والمقدمات، السياسية والجغرافية، التي كُتبت منذ أكثر من قرن كامل ليس لها أن تفرز، منطقياً، إلا هذه النتائج التي نراها الآن.

بالتأكيد، وبعيداً عن تهويمات البعض التاريخية حول كيانات ومشيخات موغلة في القدم، هذه “الدول” و”المشيخات”، وحكامهما، هم نتاج بذرة مهجّنة أسبغ عليها الخارج رعايته التامة ثم حدّد مدى نموّها باتفاق فرنسي بريطاني في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي، مثلها مثل حركات المتأسلمين العنفية وإن كانت راية الإنشاء والرعاية تُعقد هنا لبريطانيا أولاً.

لكن هذه الـ”بذرة” زُرعت في أرض لم تعرف مفهوماً للحكم إلا بصيغة الغلبة والاستئثار والغزو، ولا للدولة إلا بمعنى “دال” من التداول والزوال من حال إلى حال لا بمعنى الثبات والرسوخ، وكان لغياب المفهوم، ولاحقاً القصور الذاتي الداخلي عن ترسيخه -لأسباب متداخلة أولها الاستبداد والفساد- بالتضافر مع العوامل الخارجية المانعة، دوراً هاماً في عدم التأصيل والتثبيت، فكان من الطبيعي أن تبقى هذه “البذرة” في حاجة للرعاية الخارجية، التي تمثّلت هذه المرة بـ”واشنطن”، روما العصور الحديثة.

ولأن التاريخ لا تحركه الصدفة بل هو مقدمات ونتائج، يصبح من الطبيعي أن يسير تاريخ العرب، دولاً وحكاماً ورعايا، في ركاب الخارج، انفعالاً لا تفاعلاً، فحين يصدر الأمر عن المركز بالقتال في أفغانستان مثلاً يتجه الحكام والإرهاب المتأسلم إلى هناك، وحين تتغير الوجهة نحو دمشق يسير القطيع بكامله نحوها، لذلك يصبح من الطبيعي والمنطقي تاريخياً أن يتجه هذان الطرفان معاً نحو إنهاء القضية الفلسطينية حين يقرر المركز ذلك.

ولأن التاريخ “يسير بهدوء ..”، كما وصفه أحدهم، يصبح من الطبيعي والمنطقي، مرة جديدة، أن يؤكّد أحد الكتاب من حاشية ولي العهد السعودي منذ شهور عدّة، أي قبل التطبيع الإماراتي، على أن ولي نعمته “لن يتردّد لحظة واحدة، من أجل السلام، في إلقاء كلمة بالكنيست الإسرائيلي إذا وُجّهت له دعوة لذلك”، ثم يعلن كاتب البلاط هذا ثقته “في أن كثيراً من السعوديين وأنا أحدُهم سيسعدنا السفر إلى “إسرائيل” والسياحة هناك ورؤية الماء والخضرة والوجه الحسن”.

للوهلة الأولى يبدو هذا الكلام وكأنه تكرار لتاريخ مصري سابق كان بطله “أنور السادات” وبعض كتاب بلاطه، لكن التدقيق في الأمر يوضح أن هذا الكلام العلني ليس استعادة لتاريخ بلد آخر، بقدر ما هو استكمال لتاريخ سعودي كامل ومتكامل، لكن بصورة علنية هذه المرة، تخرجه من دائرة الستر والإخفاء إلى طور الإعلان والمكاشفة باعتبارهما سمة المرحلة “الترامبية” التي لا تحفل بموجبات “ماء الوجه” الداخلي لأتباعها ورعيتها، ولا ترضى بأقل من تقديم فروض الطاعة علناً.

ولأن الخطيئة تستجّر الأخرى، فقد حفل تبرير المثقفين للتطبيع – وهم، بتعابير “لينين”، أقدر الناس على الخيانة لأنهم أقدر الناس على تبريرها- بكمّ هائل من الخطايا، فقد تحوّل الصراع الوجودي مع “إسرائيل” على أيديهم إلى “خلاف حدودي” يختلف حكماً عن “صراع الوجود مع إيران والعثمانيين”، ثم تطور الأمر إلى حد أن يخرج من بينهم من ينفي وجود فلسطين التاريخي بالمطلق بحجة أن القرآن الكريم لم يشر إليها فيما أشار إلى بني “إسرائيل”. والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات “المثقّفة” لن تكون إلا على شكل طرح واضح في صحيفة سعودية رسمية لفتح سفارة “إسرائيلية” في الرياض حيث “كبير العرب وقائد العالم الإسلامي” وبالتالي يصبح الاعتراف الأوسع بـ”إسرائيل” تحصيل حاصل ما دام قد فعلها “الكبير” بكلمات الكاتب، لتصبح إضاعة الحرم المقدسي والتفريط به ممر إلزامي لخدمة الحرمين الشريفين.

بهذا السياق “الطبيعي” للتاريخ جاءت “لحظة الإمارات” التطبيعية كـ”ابنة شرعية” له، وستتبعها “لحظات” متتالية ومتسارعة لأبناء “بذرة” الخارج، لكن للتاريخ دروسه وعبره الكبرى، فبعد أن زار السادات القدس وألقى خطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي وصفق له الحضور والإعلام العالمي، واقتسم نوبل للسلام مع صديقه “بيغن”، كانت “لحظة المنصة” الشهيرة في انتظاره في ذكرى السادس من تشرين.

وذلك أيضاً سياق “طبيعي” للتاريخ.

أحمد حسن