مجلة البعث الأسبوعية

“الرّجوج”.. طبل الرضوخ يقرع يا سالم!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

قال الراوي: “وأمر بدق الطبل والنحاس لاجتماع العساكر وباقي الناس، وكان هذا الطبل يقال له (الرجوج)، وهو من أعظم الطبول، وكانت تدقه عشرة من العبيد الفحول، وهو من صنعه ملوك التبايعة العظام، وكان الناس يسمعون صوته عن مسافة ثلاثة أيام، وكان الملك حسان إذا غزا قبيلة من العربان، يأخذ ذلك الطبل معه، وأينما ذهب يتبعه”.

في السيرة الشعبية يتغنى راوي السيرة في المقهى، وسط دخان الوهم والنراجيل والخوف من ذئاب الجبال، بقصص عن الزير سالم وعنترة العبسي وأبي زيد الهلالي، مما نلتقطه لبعض الرموز التي يمكن إسقاطها على واقع الحياة لنتندر بها ولنتعلم منها ولنستفيد عبراً وثقافة وحججاً أمام المحاورين، لنبرز ثقافة ما هنا وحسن اطلاع ما هناك.

من بين تلك الرموز تستوقفني رمزية جيش الرعب الذي يتقدم كل معتد غاشم طامع في خيراتنا وعقولنا وإرثنا الحضاري، جيش من الوهم والخوف والرعب يبثه في نفوس الناس لتخور القوى وتتهالك الإرادات أمام قدومه، ليكون من السهولة عليه السيطرة على الشجر والحجر بعد أن تمكن من تلابيب القلوب والعقول للبشر.

مما روي، وذكرت بعضه في المقدمة، أنه كان لتبَّع اليمن طبل ضخم هائل الحجم تحمله حفنة من الرجال الأشداء يتقدمون جيشه أياماً معدودة – دلالة على تقدم المسافات – فينصبونه أمام مداخل القوم المستهدفين، ويضربونه عدة ليال مظلمة بحيث يبث مع هدوء الليل الرعب في النفوس من صوته المتواتر العازف على وتر الخوف، ومن قلق الليل الذي يطيش به صوت ذاك الطبل مع أحلام وصبر الرجال؛ وحين يتقدم جيش التبّع اليماني تكون الأرضية مؤهلة لاقتحام القصور والقلاع وتوقيع معاهدات رضوخ واستسلام.

في العصر الحديث، استبدل العدو طبول الرضوخ وجلجلة الليالي بسم زعاف من نوع جديد، مخدر للعقل مسيطر على الأفئدة يأخذ بعقلية المتلقي ويفرغها من محتواها – إن وجد* – ليجعلها صفحة بيضاء ناصعة قابلة لنقش مفرداته وأوهامه وسمومه. كمثال عملي، أذكر أنه عشية غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق الشقيق واستباحة أراضيه، كان هناك تمهيد لعدة سنوات من نوع عصري “مودرن” يليق بأحلام وتطلعات ولغة أطفال هذا الجيل وشبابه، وقد غزا هذا السلاح الناعم المنطقة العربية برمتها، ألا وهو الألعاب الإلكترونية التفاعلية التي كان يروج لها عبر آلاف من النماذج وآلاف من الأقراص المدمجة وشرائط الفيديو، ألعاب تتماهى مع ما يريده الغرب المتوحش لا الحضاري من أرض الشرق اليانعة مطمعه ومهوى عقله المريض للاستعمار على مر العصور؛ فكانت هذه الألعاب مقدمة جيش الغزو بقضه وقضيضه وحديده وترساناته، فغاب جيل من الأطفال واليافعين في أتون محرقة الصهر، وراح التنافس في ميدان العنف والجنس والخرافة يغزو ويسيطر على عقولهم، وساهمت كل الظروف المحيطة بالطفل حينها في تحويله إلى نسخة واقعية من البطل الرقمي الذي يتماشى مع غرائزه ورغباته وطاقاته المتفجرة التي يحاول كل طفل ويافع في عمره تجسيدها عبر القدوة، فكان لأطفالنا قدوة من أبطال وهميين مختلقين مصممين ومبرمجين لهذه الخصوصية بالذات:

– أبطال من خرافة ووهم لعزلهم عن واقعهم المعاش وتقصيرهم عن ركب حضارتهم وأخلاق وقيم مجتمعهم.

– أبطال يلغون في الدم كما يلغ كلب ظامئ في حفنة ماء، ويتلذذون في لعق دماء الضحايا ورؤية اللون الأحمر يملأ الساحات والجداران بقانىء لونه.

– أبطال يروجون للجنس على أنه غنيمة ومغنم مباح.

هذا الجيل تربى ونشأ على نظريات دائرة الضياع الثلاث التي أسلفناها (خرافة – جنس – دم)، ولما دقت طبول الرضوخ الحقيقية جاء من وضع بين أيديهم السلاح والمال والمتعة، فخرجت في المنطقة وحوش بشرية صغيرة صنيعة ثقافة العدو الأمريكي وأذنابه ودعاة ديمقراطيته وضاربي طبول الرضوخ الخاصة به.

هول كبير يحرق القلوب لما تجد أبناءك يتفلتون من بين يدي أخلاقك وتربيتك وعاداتك وتقاليدك لينتهجوا نهج عدوك، والأدهى في نهج العدو التخريبي هو ما يجعل أبناءك يمارسونه ضدك أنت، وحضارتك، وتاريخك، وبنيانك.

الجيل الذي رأيناه شاباً يافعاً أعطاه العدو كل مقاليد الفوضى الخلاقة التي أراد، فتوّجه على رؤوس البسطاء الضعفاء، وأمده بالمال العميم وبالسلاح الفتاك، فأصبحت أحصنة طروادة داخل جدرانها، ولم يعد بالإمكان رد القضاء.

 

إلا الصحوة يا سالم

نداء يجب أن يتبناه كل من له هم في ثقافة الجيل: لم يكن لطبول رضوخهم ولا أعتى ترساناتهم أن تؤثر قيد أُنملة في ذهن وعقل وأحلام أبنائنا، لو أننا كنا حينها قد ملأنا عليهم تفاصيل تربيتهم وتعليمهم وثقافتهم بما هو حقيقيّ وجديّ وسوريّ خالص، ولو أننا عززنا ثقافة المناعة النبيلة في وجدانهم وتفاصيل حياتهم، ولو أننا خلقنا لهم من أبطال وطنهم الحقيقيين أيقونات واقعية لتكون قدوة يحتذى بها.

لو أننا ملأنا الكأس في عقولهم بما يليق لطفح عن الحد كل ما هو وافد غريب وصب سمومه خارجها –أعني الكأس- ولو أن هذه الكأس كانت مترعة بالحب والخير والجمال، كما كانت أيام زنوبيا حين واجهت روما بحفنة من الرجال السمر وخلفهم نساء حنطيّات كلون القمح يربين الجيل الذي يلي على ما انتهجه الجيل الذي سبق؛ لكننا الآن نمرغ أنوفهم في رمل صحراء تدمر، وإن شاء المولى لا بد أننا فاعلون.     إلّا صحوة صادقة مجتهدة في درب العطاء والبذل لصناعة ثقافة بديلة قادرة على المواجهة، لتحصين الجيل التالي ورعايته، لحقنه باللقاح الوطني السوري الخالص المستمد من كريات الدم البيضاء المغزولة من قطن وطنه وزيت زيتونه وبلح صحرائه.. لابد من تلك النهضة الثقافية العارمة التي ستغطي آثار السنوات التي خلت وتزيد بلسمة الجراح أملاً في شباب واعد ناشئ على حب بلده وأخلاق أهله وعادات وتقاليد جيرانه.. اجعلوه فارساً نبيلاً محصناً من كل زيف، قادراً على تمييز الخطأ ومحاربته من الصواب والمدافعة عنه، ولتكن له أميرة كما في كل حكايات الأطفال ولكن ليست للمتعة والجنس والمجاهرة بالرذيلة.. لتكن أميرة تليق به ويليق بها كسورية التي نفديها جميعاً بنور عيوننا ودم شراييننا.

……

قال الراوي يا سادة يا كرام:

وعزفت طبول النفير الطفليّ السوريّ العام، وبدأ أهل الاختصاص عملهم بكل جد واهتمام.