مجلة البعث الأسبوعية

بوتين.. رجل خلف الأسطورة

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

في تسعينيات القرن الماضي، التهمت النسور جثة الاتحاد السوفييتي السابق؛ وحتى الثروة التي كان ينبغي لروسيا الجديدة أن تتمتع بها، تم تحويلها إلى جيوب الأوليغارشيا التي اندفعت لتصبح آخر المليارديرات. هذا الوضع المزري دفع غالبية الروس لبيع الطاولة بدلاً من وضع الخبز والزبدة عليها. وبمجرد سقوط جدار برلين، تم في موسكو تنصيب هؤلاء “المليارديرات” الذين كان من المفترض أن يديروا انتقال روسيا إلى اقتصاد رأسمالي، لكنهم في الواقع لم يفعلوا ذلك.

وعندما لفظ الاتحاد السوفييتي أنفاسه الأخيرة، اختار فلاديمير بوتين – وكان حينها لا يتجاوز الـ 39 عاماً – أن يترك موقعه كضابط استخبارات في الكي جي بي، ويدخل الساحة السياسية.

في 31 كانون الأول 1999، تمكن بوريس يلتسين من البقاء متيقظاً لفترة كافية للتنحي، وترك بوتين يتولى منصب الرئيس المؤقت. وعندما أفسح الحرس القديم الطريق أمام الحرس الجديد، كان على بوتين إجراء تغييرات جذرية، وإلا فسوف يصيب روسيا الجديدة ما أصاب الاتحاد السوفييتي. كانت سياساته ترتكز على جعل روسيا عظيمة مرة أخرى، وإخراجها من هاوية النسيان. وكان المفتاح هو استخدام القوة الناعمة لاستعادة السيطرة بدلاً من استخدام التكتيكات العسكرية.

لم يكن التحدي الأول الذي واجهته موسكو هو الفوضى التي ألحقها بها الساسة الغربيون فحسب، بل والضرر الذي استمرت هذه السياسات في إحداثه. كان هروب رأس المال مستشرياً، وكان الروبل بلا قيمة، وكانت حياة المواطن الروسي العادي تنهار بشكل كبير، بينما كانت رحى الحرب تدور في الشيشان في الوقت نفسه.

كانت إحدى القضايا الأولى التي تصارع معها هي حكم الأوليغارشيا التي عاشت حياة فارهة لسنوات على ظهور الآخرين، فقد عقد بوتين معها صفقة تمكنهم من الاحتفاظ بسلطاتهم وثرواتهم مقابل دعمهم. دخلت هذا الاتفاق حيز التنفيذ ببطء خلال السنوات الأربع الأولى من تولي بوتين منصبه، لكنه سمح له بزيادة سلطته مع تحسين المستوى العام للمواطن الروسي العادي.

كانت الحرب في الشيشان أكبر التحديات التي واجهها الكرملين في ذلك الوقت، وكان عليه إيجاد الحل. كان الانفصاليون المدعومون من الخارج يقاتلون ضد موسكو، وفي هذه المرحلة فعل بوتين شيئاً لم يبرز في ذلك الوقت فحسب، بل وجد صدى في سياساته حتى اليوم.

بعد التسعينيات، وبدلاً من الاحتفال بالأهداف الغامضة للمستقبل، أصبحت موسكو أكثر توجهاً نحو الهدف، وباتت تحتفل بالنصر فقط بعد تحقيقه، وهو ما حصل بالفعل حين ربح بوتين معركة الشيشان من خلال استفتاء عام 2003، ما عزز سمعته كخبير في التفاوض والدبلوماسية.

في آذار 2004، أعيد انتخابه رئيساً، وخلال فترة ولايته الثانية، بدأت جهود حقيقية تُبذل لتوضيح ما حدث بين عامي 1991 و2000. وصف بوتين سقوط الاتحاد السوفييتي بأنه “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. ومن هذا المنطلق، أعاد إحياء المشاريع الوطنية ذات الأولوية: “برامج الصحة والتعليم والإسكان والزراعة”. وفي هذا الوقت، بدأت موسكو مقاضاة أولئك الذين سرقوا البلاد، وتم تقديم العديد من رجال الأعمال والأوليغارشيين الذين اعتادوا التهرب من الضرائب والقانون تحت حكم يلتسين إلى العدالة، والتي صورها الغرب على أنها مطاردة ساحرات!

 

رئيس الوزراء

نظراً لأن الدستور الروسي آنذاك منع بوتين من الترشح لولاية ثالثة، فقد تم منح ميدفيديف المنصب الأعلى بسبب الالتزام القانوني بدلاً من الضرورة السياسية. صحيح أن ميدفيديف كان في المقعد الساخن، لكن بوتين – بفضل إرثه الذي دام ثماني سنوات ومكانته الدولية العالية – لايزال على العرش. وخلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء (2008- 2012)، كانت هناك فترة من الهدوء النسبي مقارنة بالسنوات السابقة، ولكن كان هناك قلق متزايد في الغرب، ليس بسبب الصعود المستمر لروسيا، ولكن أيضاً بسبب استقلال موسكو المتنامي عن النظام الذي نسقته واشنطن، و”ثورة الثلج” (2011 – 2013) أفضل مثال على ذلك، عندما حاول الصحفيون والمنظمات الأجنبية مرة أخرى التدخل في الشؤون الروسية لصالح الغرب.

 

عودة إلى الرئاسة

في عام 2012، انتخب بوتين مرة أخرى رئيساً بأغلبية كبيرة، لكن انتخابات ذلك العام كانت عرضة لانتقادات واحتجاجات أبرزها في ساحة بولوتنايا، والتي تم تنسيقها إما من قبل الخاسرين أو من قبل مجموعات ترعاها وتنظمها المنظمات الغربية. وغدت هذه الاحتجاجات موضوعاً متكرراً على الساحة السياسية الروسية، وكان الكرملين على دراية متزايدة بالجهود التي تبذلها الحكومات الغربية للتدخل في الشؤون الروسية وتشويه سمعة بوتين مع كل فرصة.

أواخر 2013 ومطلع 2014، أطاح انقلاب غربي بـ يانوكوفيتش، رئيس أوكرانيا المنتخب ديمقراطياً. كان من الواضح للجميع أن الانقلاب شكل محاولة أمريكية لدفع الناتو إلى الحدود الروسية، لكن تدخل واشنطن وضع رقعة الشطرنج الكلاسيكية تحت أنظار بوتين.

درست روسيا لعبة الشطرنج وتصرفت بسرعة لتبديد أي مفاهيم خاطئة حول سيطرة الناتو على البحر الأسود، واستطاعت القوات الروسية تأمين المنطقة ضد القوات الأوكرانية التي تعمل بموجب أوامر أمريكية في كييف، وإجراء استفتاء لسؤال السكان عما إذا كانوا يريدون البقاء تحت سلطة كييف أو موسكو.

كانت الورقة الرابحة الأولى لموسكو هي حقيقة أن شبه جزيرة القرم، ومن كان يسكنها من أصل روسي، يتحدثون الروسية، والأهم من ذلك، يعرّفون أنفسهم على هذا النحو. وهذا يعني أنه لن يتم فقط رفض سياسة كييف الجديدة المتحالفة للغرب، بل وإن هذا الرفض سيعني تلقائياً القبول بالمبادرات الروسية.

الورقة الرابحة الثانية هي أن الولايات المتحدة سلمت معظم أوكرانيا إلى “دميتها في كييف”، لذلك كان أي انتصار قد يرغب العم سام في إعلانه سيكون أجوفاً ومكلفاً من الناحية السياسية، لأنه عندما يكون لدى الناس الخيار فإن موسكو هي الفائز.

مع تراجع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وكييف، قررت واشنطن وأتباعها الأوروبيون فرض عقوبات ضد الروس، واستخدام أسلحة وتكتيكات وأكاذيب لمواجهة موسكو. وكان المثال الأكثر فظاعة إزاء هذا الموقف هو تحطم الطائرة MH17، ومخالفات المحققين والسلطة القضائية للإضرار بروسيا واقتصادها.

 

روسيا في سورية

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يتم نشر قوات عسكرية كما يحصل الآن في سورية، حيث اعتبر أول انتشار كبير للموارد العسكرية الروسية، ما فاجأ الكثيرين في الغرب. إن أهم نقطتين في هذا المسرح هما أن الكرملين دخل المعركة السورية بناء على طلب من الحكومة السورية.

غزت القوات الأمريكية سورية في تحد للقانون الدولي والأمريكي، وزعمت أنها دمرت أهدافاً إرهابية منذ وصولها. ولكن عندما دخلت روسيا سورية، في نهاية عام 2014، كان تنظيم “داعش” في ذروته بعد تعرضه لهجوم مزعوم من قبل أكبر قوة عسكرية في العالم، ولأكثر من ثلاث سنوات. شهد العام التالي تدفقاً هائلاً للقوات الروسية التي تمكنت في غضون أشهر من القيام بما عجزت الولايات المتحدة عن تحقيقه لسنوات، حيث تمكن الجيش العربي السوري من استعادة معظم الأراضي التي سيطر عليها “داعش” والتنظيمات الإرهابية الأخرى.

حالما انقلب المد، عادت معظم القوات الروسية إلى ديارها، مخلفة فرقة صغيرة من الجنود الروس لمساعدة دمشق وحماية القوات الروسية في ميناء طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم باللاذقية. هذه الضربة العسكرية لبوتين أعادت روسيا إلى خريطة العالم، فبعد عقود من الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وجدت روسيا نفسها مرة أخرى في قلب الشرق الأوسط، وهزمت أولئك الذين ادعت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع هزيمتهم.

 

لعبة الكمبيوتر والقرصنة

خلال الانتخابات الأمريكية عام 2016، اتهمت الإدارة الأمريكية روسيا بالتدخل في النتائج وإفساد الانتحابات، لكن الكرملين تجاهل الاتهامات الباطلة، وبدلاً من الانخراط في صراع لا طائل منه، سمح للسياسيين ووسائل الإعلام الأمريكية بمحاربة بعضهم البعض بطرق غبية. لكن حتى يومنا هذا لاتزال هذه الاتهامات، إلى جانب جولات العقوبات المنتظمة، تنطلق من واشنطن، لكن الكرملين مثل قطة تجلس على شجرة، وتبتسم وهي تشاهد الكلاب السياسية تنبح في الأسفل.

مع فترة رئاسته الجديدة، لم يكن لدى بوتين مشاكل قديمة فقط يجب حلها، بل وأيضاً تحديات جديدة يجب التغلب عليها. الغرب المصعد للقتال أكثر من أي وقت مضى، وإيران التي يعاقبها أولئك الذين أساءوا إليها، وعلاقات وثيقة بشكل متزايد مع الصين التي وجدت نفسها أيضاً في مرمى الغرب.

وبفضل جهود موسكو الدبلوماسية، تراجع الضغط الغربي، ليس فقط ضد روسيا، ولكن أيضاً ضد الدول التي ترفض سياسات واشنطن، وهو ما تسبب في تزايد عدد الدول التي وجدت الدفء في أحضان موسكو. فقد ازدهرت التجارة مع الصين بشكل واضح في السنوات الأخيرة، كما نما التعاون بين روسيا وطهران وكراكاس ودمشق، وحتى بغداد، بشكل كبير في العامين الماضيين. وهذا ليس فقط بسبب شخصيات مثل بوتين ولافروف وزاخاروفا، ولكن أيضاً بسبب سقوط الدبلوماسية الأمريكية حول العالم.

لم يكن بوتين معروفاً نسبياً عندما تولى السلطة في عام 1999، لكن ما كان معروفاً أنه ورث دولة منهارة مليئة بالسرقة والنهب والشياطين، لكن كان لديه البصيرة لهزيمة هؤلاء الشياطين. وفي مناسبتين، سمح لأعداء سابقين بأن يصبحوا حلفاء له، وفي كلتا الحالتين قام بصياغة حلول دائمة ترضي جميع الأطراف. لكن أكثر ما يميز بوتين أنه رجل صامت بشكل مثير للإعجاب، على عكس ترامب الذي مزق نفسه منذ الانتخابات الأخيرة، ويبدو أنه يفعل ذلك مع اقتراب الانتخابات المقبلة.

لقد حرص الغرب على أن تكون روسيا صحراء وكومة محترقة من الرماد، ولكن على الرغم من الجهود المستمرة للغرب فقد نهض طائر الفينيق الروسي من تحت الرماد. وفي هذه الأوقات الخطرة وغير المؤكدة، من الصعب إطلاق تنبؤات، ولكن بالنظر إلى سنواته العشرين في المنصب، فإن صبر ودبلوماسية بوتين سيسمحان له بمواصلة تقديم الأفضل لروسيا وشعبها بعدما عمل على ترسيخ مكانتها على المسرح العالمي.