الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

محطات الأنس!؟

د. نهلة عيسى

عدنا، والعود أحمد أو أحمق.. لا فرق، للاصطفاف في طوابير “الأنس” الممتدة إلى ما لا نهاية في وأمام وخلف وجانب محطات الوقود، نتبادل الأحاديث، والضحكات، والزفرات، والمشروبات، والبسكويت، وأرقام الهواتف، وأحياناً لا يخلو الأمر من تبادل الشتائم، والوصول إلى ما يشبه العراك والاشتباك الجسدي، لكن في حدود اتفاق غير معلن بيننا، أننا مجرد “كومبارس” في مسلسل مكسيكي طويل، دورنا فيه يقتصر على انتظار وصول البطل الرئيسي، السيد “بنزين”!؟.

الغريب، أن هذا الوقوف الطويل لا يزعجني، بل يمتعني، ويخرجني من الروتين اليومي، وأجده فرصة لتأمل من حولي، ولفهم التغيّرات التي طرأت على شخصياتنا جميعاً في ظل ظروف معيشية غير نمطية، وغير إنسانية، والتكهن بماذا يفكرون، ويشعرون، ويأملون، بل إنني أغادر سيارتي لأجلس على الرصيف بجانبهم، لأحظى بترحيب غير مسبوق، باعتباري الأنثى الوحيدة التي تجرؤ على كسر “برستيج” السلوك الأنثوي القويم، ثم نتبادل السجائر، والمناديل الورقية لمسح عرق صيف أشبه بجنهم، وتتعالى قهقهاتنا على اقتراح أحدهم بتبادل الكمامات لتأكيد وحدة الهدف والمصير!.

والجميل في الأمر، أن هذا الوقوف القهري القسري، جعلني ازداد حباً للناس، للبلد، لكل التفاصيل التي تبدو ظاهراً ملطخة بدماء كراماتنا، لكنها في العمق، هي أشبه بإبرة حياكة تنسج أواصر من نوع جديد بيننا، أواصر تشبه الحلوى، حلوة ولينة، ومحشوة بقشدة التصبر، ومرشوشة بسكر الأمل، في هذا الوطن المكسر النوافذ، والمزروع في المسافة مابين القلب والعين، والذي نتعامل معه جميعاً، كل واحد بطريقته، على أنه “بيت العائلة” القديم، الذي يعز علينا مغادرته أو بيعه، بحجة تردي جدرانه، أو مستوى الخدمات فيه!؟

الجميل في الأمر، أننا ونحن في نهاية العام العاشر من الوجع، ومصنفون وفقاً للتقارير الدولية، ترانزيت خطر وغير مرغوب فيه، والشك المفترس لصيق حقائبنا المعبأة بالسواد والحزن وصور الشهداء، وبعضاً من ذكريات نجونا بها من بلد، كان وطناً للياسمين والنسيم والفراشات الملونة والوجوه الضاحكة، وتاريخ سحيق يشير إلى أننا أول من دون وقرأ وكتب وعزف وعاهد وباع واشترى وحكم، ما زلنا قادرين على الوقوف بانتظار بديهيات الحياة، السكر، الرز، الزيت، البنزين.. الخ، والأجمل أننا نحوّل الوقوف إلى محطة سخرية، ومنصة نكات، ودعوات بفرج قريب، ثم سلامات واتفاقات على موعد لنلتقي في المحطة لنكمل الحديث!.

الجميل في الأمر، أنه رغم كثرة الأسئلة المرمية في وجهنا اليوم، وهي الأسئلة الأكثر وجعاً، لكن في المحطة اكتشفت أن قاع هذه الأرض التي يكسو سماءها الآن دخان المرارة، كل يوم فيها رغم الموت، هو عيد، وأن البلد الذي لم يتوقف عن نقش الموزاييك على علب البقلاوة وزنود الست، ولا عن غزل خيوط “الأغباني” المنسوجة بصبر لا تعرفه سوى الشعوب الراسخة في عراقتها وقدمها، والقادر على صناعة الحلوى وسط الرصاص والنار، قادر على النجاة، لأن الأوطان صناعة قلب، وشجر الحياة لا ينمو سوى في القلب، وعدا ذلك كل شيء حتى الحرب، يبقى مجرد تفاصيل.

ولأنني أيضاً موقنة أن هذا البلد لا يموت، بالنيابة عن قلبي وقلوب جميع السوريين في البيوت والشوارع وفي كل المحطات، أتمنى أن يعود الوطن إلى حضن جميع من صمد وصبر، وأسدل ستائر الصمم على نعيق الغربان، وقلبي مثل الإسفنجة كلما بللته الدموع كبر، وزادت قدرته على الحب، رغم أن الحب في الحرب كفر، ونوعاً من اختلاط الحروب، أو كالراكب ظله، كلما توهم الهرب منه، تعثر فيه، واهمٌ من يظن أن الجحيم في السماء، وفي الوطن حرب، ولكني رغم كل الخراب، في بداية كل يوم أشهق في سري بالدعاء لهذا البلد الجميل، والشعب العظيم، كشهقة الولادة، وأشعر أني بذلك أكتمل، ثم أتعوذ بحبي له من الشيطان، والموت، والخسارة، وأرى في انتظار عناقي القادم له، يوم إعلان النصر القريب.. بشارة، وأؤمن بأن النصر لابد آت، هكذا يقول قلبي، بل أظن.. هكذا تقول قلوبنا جميعاً.