مجلة البعث الأسبوعية

نقوش .. الـيـأس الـثـوري

” البعث الأسبوعية ” محمد كنايسي

من المعتقدات المنتشرة على نطاق واسع أن اليأس أمر سلبي، وغالبا ما يتم ربطه بالنظرة العدمية للحياة، حتى ليكاد اليأس يكون من الرذائل المحرمة التي يستحق مرتكبوها العقاب! وهذا على عكس الأمل الذي تكرسه الثقافات المختلفة قيمة ايجابية تستنهض معنويات الانسان في مواجهة الشقاء بمختلف أنواعه، وتجعله قادرا على الاستمرار في الحياة، بل وعصيا على الانهيار والانكسار..

ولو تأملنا خطاب الأمل في الحرية والديمقراطية كما ينتجه فلاسفة غربيون مزيفون من أمثال هنري ليفي بهدف إشعال نار الفوضى الهدامة في الدول العربية، لرأينا الى اي حد هو قادر على اختراق العقول العربية الغبية بما فيها عقول المثقفين المستلبين..

وقل هذا عن التفاؤل الذي ينصحك به من هب ودب حتى وهو يحمل على ظهره المقوس صخرة سيزيف، و يثير الشفقة والرثاء.

وأنا شخصيا لا أعرف انزعاجا أسوأ من ذلك الذي يسببه لي تعليق شخص ما على أحد منشوراتي على الفيس، من قبيل: “لماذا هذا التشاؤم.. تفاءل يا صديقي”، وأنا متأكد أنه مسحوق تحت ثقل الصخرة، ولا يكاد يقوى على النطق..

ولست متأكدا من أن ثمة اليوم من يصدق العجز الشهير: “كن جميلا تر الوجود جميلا” مع أنه يجري كثيرا على الألسن، إلا من قبيل التفاعل الجمالي مع الشعر وليس من قبيل الايمان بصدقه وحكمته، وقديما قالت العرب: “أعذب الشعر أكذبه”، وهذا صحيح، فليس من مهام الشعر قول الحقيقة، ولذا يحق للشاعر أن يرى الوجود جميلا حتى وإن كان وجودا غارقا في القبح، وربما أراد الشاعر بهذه الطريقة أن يمحو ذلك القبح الموضوعي بضربة من عصاه الذاتية السحرية..

لكن لو جاز لنا تحويل تلك الجملة الشعرية الى جملة فلسفية، لوجدنا انها ضرب من المثالية الذاتية التي تجرد الوجود من استقلاليته الموضوعية، وتجعله مجرد صدى لذاتية الانسان، وإلا فكيف يمكن لنا أن نرى الوجود جميلا إذا لم يكن كذلك، أم أن نظرتنا إليه هي التي تغيره، بل تخلقه خلقا جديدا…وإذا صح هذا في عالم الشعر والفن عموما فهل يصح في عالم الواقع؟!

إلى هنا، ربما اعتقد القارئ أني ضد الأمل والتفاؤل بالرغم من حاجة البشر الماسة إليهما في هذه الأوقات العصيبة التي بلغ فيها توحش قوى الهيمنة والعدوان التي تحكم الأرض حدا مرعبا تحول العالم معه إلى ما هو أسوأ بكثير من غاب يحكمه قانون القوة، لأن ما يحكم الغاب قانون طبيعي يبيح إشباع غريزة الجوع عند الحيوان، وأما في عالمنا الإنساني، حيث يتباهى الناس بالعقل والاخلاق والعدل وحقوق الانسان، فإن ما تتعرض له أغلبية البشر من ظلم وقهر وتجويع وتقتيل وإبادة، أمر مرعب لا يقدر على ارتكابه إلا وحش كاسر واحد هو للأسف “الانسان العاقل” نفسه..

لكن ما أود قوله هو أن الأمل الذي قال سعد الله ونوس إنه يحكمنا، لم يعد في حقيقته الجوهرية، كما أراد الأديب الراحل وغيره من المؤمنين بقدرة البشر على تغيير مصيرهم، تلك الطاقة الروحية الهائلة التى يتسلح بها البشر لتغيير الواقع، بعد أن أفرغه أعداء الانسانية في الغرب المرتد عن تراثه العقلاني، من مضمونه الثوري، وحولوه بأسلحتهم الناعمة إلى أكذوبة معسولة يعيش عليها الانسان ليستطيع الاستمرار في جحيمه . و مازالت استراتيجية الغرب المنافق تقوم على إغراء الشعوب و وعدها بجنات عدن بينما هي تقودها الى المذبح..

تلك هي الفكرة الأخلاقوية البائسة التي يستخدم الدين والاعلام والثقافة من أجل زرعها في الأدمغة، وتدجين البشر للعيش في نعيمها الزائف..أو حثهم على تغيير الواقع إلى الأسوأ كما فعل الربيع العربي المزعوم..!

حالة وحيدة يمكن فيها للأمل الانساني ان يكون دافعا للتغيير، وذلك إذا اقترن يالعمل الحقيقي من أجل تحقيق كرامة الشعوب وخير الانسان، وهو ما يبدو غائبا تماما عن عالمنا المحكوم بتسطيح العقل وجعله تابعا ذليلا للواقع الكريه…

أفلا يمكن لنا بعد هذا أن نتحدث عن اليأس الثوري مقابل هذا الأمل منزوع الأنياب.

أعتقد أن الذين غيروا العالم، والذين سيغيرونه هم اليائسون الذين تخلصوا أولا من تلك الأكذوبة المقنعة، وأعادوا للأمل معناه الانساني المسلوب. وعندما يبدأ البشر في التحرر من أوهامهم و اليأس من الغرب الماكر، سيبدأون في تغيير العالم.