دراساتصحيفة البعث

أزمة الديون وموت الأمم

إعداد: هيفاء علي

مع بداية شهر أيلول، لا بد من رؤية آثار الانكماش في الإنتاج بسبب فيروس كورونا على اقتصاديات العالم، وعلى عكس ما تقوله كريستين لاغارد، مديرة البنك المركزي الأوروبي، بأن أسوأ ما في الأزمة سيكون وراءنا، فإن موجة البطالة الجماعية وإفلاس الشركات تترسخان بقوة.

لقد تمكّنت البنوك المركزية الكبرى، ولاسيما البنك المركزي الأوروبي، من تجنّب الانهيار الداخلي للاقتصاديات في الأشهر التي أعقبت الاحتواء، وذلك بفضل أدوات السياسة النقدية غير التقليدية.

كان يمكن للمرء أن يتوقع أن الدول المثقلة بالفعل بالديون في بداية عام 2020 لن تدعم سياسات “التيسير الكمي”، التي لا تحلّ بأي حال أسباب المشكلات وتؤدي تلقائياً إلى التضخم في أسواق الأسهم، ولكن كما حصل في 2008-2011 تمكّنت البنوك المركزية الرئيسية من الحفاظ على وهم معيّن بشأن الصحة الاقتصادية العالمية النسبية، على الرغم من الإغلاق الكامل للإنتاج، في حين لا يتردّد البعض في تقديم إدارة الأزمة على أنها ناجحة والتأكيد على أن الوضع لن يكون كارثياً كما كان متوقعاً في البداية، بحسب ما صدر عن محافظ بنك فرنسا.

ما يدفع للقول، كما يشرح مراقب حكيم مثل ميشيل دراك: “لقد خرجنا منذ عام 2008 من الرأسمالية التقليدية ودخلنا حقبة جديدة، وهي نموذج تتمكّن النخبة المالية عديمة الجنسية، ضد كل منطق اقتصادي، من الحفاظ على نظام الابتزاز عبر الوطني وتطويره، دون وجود واقع ملموس عن وعي الجهات الفاعلة الاقتصادية التي تعود إلى السؤال -حتى مؤقتاً- ليكون هذا النظام المجنون والمدمّر في خدمة أقلية صغيرة”.

منذ نهاية حزيران الماضي، يشهد العالم إنشاء سياسات تحويل، حيث سعى القادة الغربيون الرئيسيون لإخفاء شعوبهم ورفع عصا التوترات العرقية حتى يبتعد الرأي العام عن المشكلة الحقيقية المتمثلة في انفجار الديون على نطاق عالمي واختفاء قصير المدى للنسيج الاقتصادي الهزيل للهياكل الوطنية.

علاوةً على ذلك، يتصرف الجميع (وسائل الإعلام، السياسيون، الفاعلون الاقتصاديون) كما لو أن الانفجار الهائل في حجم الديون، في جميع أنحاء العالم منذ أزمة المريخ، لم يكن له عواقب وخيمة على المستقبل.

من جانبه، حذّر ماريو دراجي “منقذ اليورو” من أن الدين الذي أحدثه الوباء غير مسبوق وسيتعيّن سداده من قبل الشباب. لذلك من واجبنا أن نوفر لهم الوسائل لسداد هذا الدين، والقيام بذلك أثناء العيش في مجتمعات محسنة، بدلاً من تكريس الموارد للمبادرات التي تحقق عوائد سياسية مضمونة وفورية، وفي يوم من الأيام، يجب إيجاد حلّ لمشكلة الديون هذه. وعلى عكس ما قاله بنك جولدمان ساكس، فإن الحلّ لهذه الأزمة المعقدة هو عدم تكديس المزيد من الديون والاستثمار في القطاعات المستدامة.

ونظراً لمبالغ الديون الأوروبية وحتى العالمية، فإن هذا الدين، خلافاً لما يقوله ماريو دراجي، لا يمكن أن يسدّده “الشباب”، فمع اليورو، هذا مستحيل تقنياً، حتى مع الاستثمارات المنتجة، نظراً لأن الكلمات لم تكن أفعالاً بعد، فلم تتمّ ملاحظة أي محاولة للاستثمار المنتج، بتوجيه من عضو البنك المركزي في البنك المركزي الأوروبي، منذ بداية هذه الأزمة.

إن سياسات البنك المركزي الأوروبي، كما في 2008-2011، عملت فقط على دعم الأسواق وضخ المزيد من السيولة في النظام المصرفي. ولم تخدم هذه السياسات الاقتصاد المنتج على الإطلاق، ولا يزال الأمر كذلك حتى اليوم، لأن طبيعة نظام منطقة اليورو هي التي تجعل هذا الأمر مستحيلاً، ولأن المادة 123 من وثيقة الاتحاد الأوربي لا تسمح أيضاً باستخدام أدوات التسييل والإشراف وانتقائية الائتمان، وبالتالي إطلاق استثمارات منتجة حقيقية بتنسيق من الدول.

وعليه، فإن الحفاظ على اليورو (الذي كان من المفترض منطقياً أن يموت في 2011-2012) هو الذي يوضح أنه منذ أزمة الرهن العقاري 2007-2008، تمّت الاستجابة لمشكلة الديون بمزيد من الديون، لكن إلى متى ستصمد هذه العبثية؟ وما هي الأسباب التي سيستمر فيها المصرفيون الخيميائيون الدوليون الغربيون في إطالة أمد الوهم الكبير الناتج عن هذا النظام؟ يتساءل المحلّلون المختصون بالشأن الاقتصادي.

كما هو معلوم، بفضل هذه التجربة في الحوكمة العالمية بمساعدة فيروس كورونا أقدمت المؤسسة عبر الوطنية في دافوس على إعداد وإعادة تعريف وضبط  كبيرة للنظام الاقتصادي والمالي العالمي. ولكن قبل عملية “إعادة الضبط” هذه، يبدو أنها لا تزال تريد أن تجعل الناس والأمم يفهمون أنه بسبب هذا الدين الهائل سيكون من الضروري أن تذهب الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى الدفع، إذ لا يبدو أن آل باولز ولاغارد وأسيادهم يخطّطون لإعلان اليوبيل مثلما فعل بعض الملوك الحكماء والصالحين في العصور القديمة. على العكس من ذلك، من المؤكد أن عصر التقشف الذي بدأ منذ أكثر من عقد من الزمان سيستمر بطريقة أكثر قساوةً.

لن تكون إعادة التعريف والضبط الكبرى محور الديون العالمية، بل ستكون شيئاً آخر، سيكون بالتأكيد إنشاء نموذج جديد (نظام مالي جديد). ولكن قبل ذلك، فإن الظاهرة التي عرفتها اليونان منذ 2011، سيتمّ فرضها على شعوب أوروبا برمتها.

ولأن الآثار المدمّرة للتقشف الكافي ولاسيما في حالة فرنسا بلغت ذروتها، فسوف تضطر الشعوب الأوربية للاشتراك في هذا النظام النقدي الدولي الجديد، إذ لم يعد لديها أي مجال للمناورة، بحسب المراقبين.