ثقافةصحيفة البعث

تأمّلات على هامش سرديّات الماضي المؤسطر

ما الذي سيحدث لو نزعنا الغشاوة عن أعيننا ونظرنا إلى الأشياء حولنا وإلى طرق تفكيرنا القديمة بأعين جديدة؟ أليس ضروريّاً، أن ننظر ونحن أبناء العصر الحديث، أبناء الفورة المعرفيّة والتّقانة العلميّة الهائلة، بطريقة منفتحة إلى هذا الوجود الملغز، المغرِق في القِدم؟ وأن نحاول استدراج أجوبة أوسع إلى فخاخِ أسئلتنا المحتارة، وهي تسعى جاهدةً لتفسير بعض الظواهر الماضويّة المدهشة؟، أعتقد أنّ الزمن قد حان منذ زمن طويل لفعل ذلك.

إنّ النّصوص والألواح المسماريّة المكتشفة في “أور”، وهي أقدم الآثار التي دوّنها الجنس البشري، تخبرنا عن آلهة كانوا يركبون سفناً في السّماء، قدموا من النجوم وبحوزتهم أسلحة رهيبة ثمّ عادوا ثانية إلى النّجوم. لقد دوّن السومريّون قبل أكثر من ألفي عام التاريخ المجيد لشعبهم، وما زلنا إلى اليوم نجهل من أين انحدر هذا الشّعب العظيم. ما نعرفه فقط، أنّهم جلبوا معهم حضارة راقية ومتقدّمة فرضوها على السّاميين الذين كانوا لا يزالون في حالة شبه همجيّة. كما نعلم أنهم كانوا يقصدون آلهتهم على قمم الجبال، وأنّهم متطوّرون في علم الفلك إلى درجات عالية، فمراصدُهُم أنجزت حسابات عن دوران القمر لا تختلف عن الحسابات التي أُجرِيتْ في العصر الحالي بأكثر من 0,4 ثانية. كما أنّهم تركوا لنا شيئاً على درجة كبيرة من الأهميّة، دوّنوه في ذاكرة هضبة “نينوى” حيث تمّ العثور على حساب رقمي ذي نتيجة نهائيّة مؤلف من خمسة عشر رقماً. بينما لم يتجاوز العدد عند أسلاف الحضارة الأوروبية، أي الإغريق الذين أُخذَتْ عنهم أغلب الاقتباسات، المائة ألف خلال أكثر فترات حضارتهم تألّقاً، حيث كانوا يصفون أيّ رقم يفوق هذا العدد بصفة “اللّانهائي”. كذلك تدلُّ الكتابات المسماريّة القديمة بأنّ السومريين كانوا يتمتّعون بأعمار طويلة بشكلٍ خارق.

حسب ما تزوّدنا به المثيولوجيا السومريّة وبعض الألواح والصّور، لم تكن آلهة السّومريين تشبه البشر، كان كل رمز للإله يرتبط بأحد النّجوم. والملفت أن هذه النجوم كانت تدور حولها كواكب ذات أحجام مختلفة. والسّؤال هنا هو: كيف تمكّن السومريّون المفتقرون إلى التّقنيّات التي نمتلكها الآن لمراقبة السّماء أن يعرفوا أنّ للنّجم الثابت كواكب تدور حوله؟ وثمّة صورة تذكّرنا بنموذج الذّرّة: وهي عبارة عن دائرة مكوّنة من كراتٍ مرتّبة بجانب بعضها البعض وتشعّ بالتّناوب، في مصر والعراق تمّ العثور على بقايا عدسات بلورية لا يمكن صنعها في عصرنا، إلّا باستخدام أوكسيد السّيزيوم، أيّ لا يمكن صنعها في عصرنا إلّا باستخدام أوكسيد لا يمكن استخلاصه إلّا بعمليات كهروكيميائيّة. في حلوان بمصر وجدت قطعة قماش مصنوعة من نسيج بالغ الرّقّة لا يمكن حياكته هذه الأيام إلّا في مصنع خاص تتوفّر فيه المهارات والخبرات التقنيّة العالية. في دلهي يوجد عمود قديم مصنوع من الحديد الذي لا يحتوي لا على الفوسفور ولا على الكبريت، وبالتالي لا يمكن أن تخرّبه عوامل الطقس!.

هذا الخليط الغريب من المستحيلات التي لا تستقيم مع الأجوبة القديمة، وغيره الكثير من الإشارات والرموز والآثار في مختلف بقاع العالم المختلفة كحضارة “المايا” التي تلتقي والحضارة الفرعونيّة بكثير من التّقاطعات، يثير لدينا المزيد من الأسئلة المرتبكة، إذْ كيف نجح سكان الكهوف البدائيّون في رسم الكواكب السيارة في مواقعها الصحيحة؟ ومن أيّة ورشة عمل بالغة الإتقان خرجت تلك العدسات البلوريّة المقطوعة؟ وكيف تسنّى لأيٍّ كان أن يصهر ويقولب البلاتين، مع أنّ البلاتين علميّاً لا يمكن صهره إلّا بدرجة حرارة تزيد على 1800 درجة، وكيف كان الصّينيّون القدماء على معرفة بصناعة الألمنيوم وهو معدن لا يمكن استخراجه من البوكسيت إلّا بصعوبة شديدة كما يقول العلماء؟ وكيف.. وكيف..؟.

إذا لم نقتنع أنّ هناك حضارات راقية سبقتنا وتكنولوجيات متطورة قد سبقت تكنولوجيتنا، فإنّه لا يتبقّى لدينا سوى القبول بفرضيّة زيارة كائنات فضائية منذ آلاف السنين، استقبلها أسلافنا البدائيون كانت تنتمي لحضارات راقية حاولت ترقية هذه الشعوب بطريقةٍ ما بأن أعطتها بعض علومها، وقد عُبدَتْ هذه الكائنات الفضائيّة من قبل هؤلاء البدائيّين، خصوصاً إذا عرفنا أنّ هناك شعوباً وقبائل بدائيّة في بعض مناطق الكرة الأرضية ما زالتْ تعتبر البندقية الآلية سلاحاً شيطانياً غريباً!. أفلا يجوز إذن، أن تعتبر الطائرة النفاثة في العصر القديم عربة إلهيّة؟ والصوت المبثوث من جهاز الراديو هو صوت الإله؟. لقد حاولتْ تلك الشعوب القديمة أن تترك انطباعاتها للأجيال القادمة بشكل ساذج على شكل حكايات أسطوريّة، فنقشتْ رسومها المقدسة وسفنها العجيبة القادمة من السماء على الجروف الصخريّة وجدران الكهوف، وحفظتْ لنا ما نحاول الإجابة عنه اليوم، وما الرسوم والتماثيل التي تطالعنا من خلال الغرف الزجاجيّة في المتاحف، والتي تكشف لنا عن خليط عرقي عجيب من ذوي العيون الجاحظة والجباه المحدّبة والشّفاه الضّيقة والأنوف الطويلة، إلّا رموز في هذا الاتجاه. إنّها صورة من الصعب أن تندغم مع النّمط الهمجي للتفكير وتصوّرنا للشعوب البدائيّة.

منذ خمسمائة سنة كان العلماء يصرخون في المحاكم: “إنّ الحسّ السليم لا يقرّ بأنّ الأرض من الممكن أن تكون كرويّة، وإلّا فإنّ البشر الموجودين على النصف السفلي منها سوف يسقطون في الفراغ”. وأكّد علماء آخرون بأنّه: “ليس في الكتاب المقدّس ما يقول بأنّ الأرض تدور حول الشمس، وبالتالي كان كلّ زعم من هذا القبيل إنّما هو من عمل الشّيطان”.

من منّا لايتساءل، من أين جلب رواة ألف ليلة وليلة مخزون أفكارهم الغرائبيّة العالية التّخييل؟ كيف تمكّنوا من وصف المصباح السحري الذي يتكلّم منه صاحبه كلّما أراد ذلك؟ وكيف ابتكرت فكرة كلمة السرّ “افتح ياسمسم”؟. اليوم لم تعد تدهشنا هذه التخييلات، لأنّ التلفزيون يرينا ببساطة الصور الناطقة بمجرد أدرنا زرّ التشغيل، وكذلك أبواب المحلّاتْ الكبرى تُفتح بكلمة سرّ ضوئيّة، أيّ بوساطة الخلايا الضّوئيّة. هذه التّخييلات تقف أمامها كتابات الخيال العلمي المعاصرة خجولةً، لذلك غدا من المنطقي تقديم جواب كالتالي: إنّ هؤلاء الرواة القدماء كانوا يمتلكون مخزوناً من المشهديّات والتجارب العيانيّة المخزّنة والتي من شأنها أن تشحذ مخيّلاتهم بهذه الطاقة العالية على السرّد العجائبي المدهش.

والآن، دعونا نتخيّل طائرة هليوكبتر تهبط في أدغال إفريقيا البعيدة في الجبال أمام مضارب قبيلة بدائية ما زالت تعيش شبه عارية وتقتات على الصيد، ولم يسبق لأحد من سكّانها أن شاهد مثل هذا الجسم المعدني المجنّح الكبير، وأنّ هذه الطائرة أصدرت دويّاً كبيراً وغباراً كثيفاً وأنزلت عجلاتها المطويّة حين الهبوط إلى الأرض كأقدام طائر معدني كبير، ونزل منها طيارون بلباسهم الخاص المميّز، وبنادقهم الآلية، فكيف لإنسان قبلي بدائي مذهول أن يصف رُسُل السّماء هؤلاء؟ ثم بعد أن تعاود الطائرة الإقلاع كما قَدمتْ، مثيرة أصواتاً هادرة وغباراً عظيماً، لتختفي ثانيةً في السماء، ألن يخبر الآخرين الغائبين بمشاهداته الوصفيّة هذه؟: بأنّ طائراً سماويّاً ضخماً ومرعباً ويثير الغبار الهائل هبط بثقل على الأرض ونزل منه مخلوقات بيضاء غريبة المظهر يحملون أشياء تنبثق منها النّار. هكذا تترسّخ الرواية كأسطورة في الأذهان يرويها الآباء للأبناء ثمّ مع كثرة التداول، يتمّ رفدها بالإضافات والمبالغات لتصبح أكثر غرابة وإدهاشاً ورهبة. لكن الثّابت فيها، هو أنّ هناك طائراً غريباً ضخماً، هبط بثقلٍ كبير إلى الأرض ونزل من جوفه أشخاصٌ غريبو الملامح، ليستطلعوا المكان، ثمّ لتصبح السرديّة منذ هذه اللحظة حدثاً خالداً في ميثيولوجيا القبيلة.

أوس أحمد أسعد