الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بعض من الطريق!!

د. نهلة عيسى

إشارة المرور، والضوء أحمر، أنا في سيارتي وبجانبي صديقتي، أراقب البشر، أراقب العدم، فجأة على الرصيف يميني صوت صراخ يخرس الضجيج، رجل في خريف الشباب، دونما تعجل كبير، يخلع ملابسه أمام الفتيات الصغيرات العابرات، فتصرخن، ويتظاهر كل من في الشارع، بمن فيهم شرطي المرور، بأنهم لم يسمعوا ولم يروا، لدرجة أني لثوان خلت نفسي أتوهم، ثم سمعت صوت الرجل يقول: لماذا الضجة.. الدنيا حر!؟ فغالبتني الضحكة وقلت لصديقتي في المقعد جانبي: معه حق.. الدنيا حر، والشارع زحام، وأظنه ينتقم لعشتار التي عوقبت بقطع الشجرة، لأن عريها كان بادياً للعيان!!  فهزت صديقتي رأسها وسألتني: من عشتار؟ فقلت لها: جارتنا!! ثم عاتبت نفسي على الجواب الساخر، وعلى السقوط في فخ تسطيح الأشياء، واختزالها في عبارات متناقضة: أبيض وأسود، مرعب وآمن، طيب وشرير، قبيح وجميل، والقضية أكبر من ذلك بكثير، إنها الحرب، إنه الحصار، إنه الخواء، حيث لا مقدس، ولا حرمة، وحيث الجنون والعبث سيدا الرصيف والطريق والعقول والقلوب!

الضوء أخضر، والرجل المتعري على الرصيف يغالب الدهشة، ويصيح: لا شيء فيما أفعله غريب، أنا حرااان!! وعلى لسانه تتدافع الكلمات بعتب: آه يا بلد، حتى الحر فيك غضب؟ فيرد عليه الصدى، وكل شيء يتابع الهرولة بسرعة لا تخلو من الغطرسة في مدينة تعشق المتغطرسين، وأضواء إشارة المرور تبدل ألوانها بسرعة الموت، فينقلب ضحكي حزناً، وتنتابني رغبة بالهرب من سباق الفئران، فأبحث عن شيء أليف حنون أحدق فيه، فتداهمني لوحة إعلانية عن مطعم جديد في مدينة تلتهمنا، وتبصقنا كل مساء على الأسرة بقايا يوم من التعب، فأناجي أطباق الطعام في الإعلان: ما أجملك، فتظن صديقتي أنني أمدحها، وترد: أنت الأحلى، فأكاد من الضحك أعانق السيارة أمامي، ولكن الرب ستر!!

أتابع طريقي نحو طرطوس، وأتأمل الناس في وطني يوقتون إيقاعهم اليومي وفق سعر الدولار. يرتفع الدولار فنتبادل السباب على مواقع التواصل، يهبط الدولار.. نسخر، وتبقى مشانق اللقمة في الرقبة معلقة، مثل شجرة الميلاد، جميلة، بهية، مبهرجة رغم الوجع، ونوهم الذات: هي الحياة هكذا، أيام صحو، وأيام مطر، بغض النظر عن الوجع، لأنه لا شيء في الدنيا بلا وجع، أليست الولادة وجع الوجع؟ ثم نتذكر أنه فقط في بلادنا الولادة وجع!؟

الطريق طويل، وفي كل حين حاجز، يفتح الجندي حقيبة سيارتي، فتطالعه بيجامتي وشبشب الطوارئ في حالة السفر على عجل، وكتب كثيرة، وحاسب مثل الجلد رفيق دائم في كل الدروب، وهوية الجامعة يسألني عنها: دكتورة؟ فأجيب ضاحكة: بعض من خيرك، فيرمقني بنظرة حنون، ويقول: والنعم!؟ فأرد: أنت النعمة وأنت الفخر، فيعيد لي هويتي، ويربت على يدي بود شديد قائلاً: “طريق السلامة، ديري بالك على حالك دكتورة”، فأغالب دموعي: “لعيونك غالي، أنتم وحدكم في البال”.

الطريق يطول ويطول، وكأنه لا صباح ولا مساء، وأنا في قمة الاستمتاع أني على الأقل مثل دونكيشوت أقاتل طواحين الهواء الوهمية، ولست في خطر، سوى خطر الطريق، فالسيارات قليلة لأن السيد “البنزين” عزيز، والسائقون يكرهون السائقات، والكل في سيارته، زعيم، وبطل، وسيد مطاع، في مدينة الأحلام المكسورة، حيث كل ديك على مزبلته صياح، وحيث يصادق المرء، صرير أنياب السيارات يخبرك بأنك أقل، فانقلع، فتنقلع، قبل أن يقتلعوا منك الروح والجسد!!

الطريق شجر، والهاتف يرن، وعلي أن أراجع الأسماء على الشاشة، رغم معرفتي أنهن أخواتي يتأكدن أني بخير، وأحمد الرب أن أسماء من أحب هي من ترن، ورغم غياب بعض الأسماء، ولكنها في قلبي تتمدد مثل السيدة الجميلة على الشاطئ، وترمقني من أعلى العليين، متسائلة: تراني بعد رحيلهم سأحذف الأرقام، وأظنهم يبتسمون أنني ما جرؤت على الحذف، على وهم أنهم ربما في قادم الأيام سيتصلون، فأتأكد أن الحرب وهم، وأن الموت وهم، وأن الفراق أكذوبة، وأنني فقط بسبب الحر كنت أغفو في سيارتي ريثما تفتح إشارة المرور، أو ينتهي وقوفي في طابور البنزين، فنلتقي من جديد!!