مجلة البعث الأسبوعية

“نـقـوش” أطـلـقـوا سـراح الـفـلسـفـة..

محمد كنايسي

أن تنتهي الفلسفة إلى مجرد مادة يدرسها الطلاب في صف الباكالوريا ويحفظون كتابها عن ظهر قلب، ليجيبوا في الامتحان النهائي إجابة حرفية عن أسئلة وضعت خصيصاً لاختبار قدرة الطالب على الحفظ، فذلك هو أشنع ما يلحق بها من تشويه، بل هو محو كلي لها وانقلاب جذري على معناها ووظيفتها. وبهذا فإن الفلسفة تتعرض على مدى عقود من الزمن للاغتيال الرمزي. ويكفي أن نذكر هنا أنها تحولت في النظرة الاجتماعية السائدة إلى شئ يثير النفور والسخرية، وأصبحت في المخيال الشعبي نوعاً من الكلام الفارغ والغريب عن الخطاب السائد والمألوف، ولهذا ينهر الشخص العادي الذي يقول شيئا ما مختلفاً عما يقال عادة، أو يدلي برأي نقدي جريء، ويتم إسكاته فورا بعبارة “بلا فلسفة” الشهيرة…

اسأل طالباً حصل على الثانوية العامة ماذا علق في ذهنه من هذه المادة؟ ولن تحصل في أحسن الأحوال إلا على أسماء بعض الفلاسفة وبعض الأفكار الفلسفية.

ولا يختلف الأمر كثيراً مع طلاب الفلسفة في الجامعة، وحتى مع الحاصلين على الإجازة، فقد تكون معلوماتهم أوسع من حيث الكم، لكن الأمر واحد من حيث النوع!

هل هدف الفلسفة هو جعل الطالب يحفظ ملخصاً عن فلسفات أرسطو وأفلاطون وديكارت وهيوم وكانط وهيجل وماركس وسارتر وغيرهم.. وملخصاً آخر عن بعض النظريات والقضايا الفلسفية كالميتافيزيقا والأخلاق والمنطق وعلم النفس وغيرها؟ وهل يعتقد المعنيون بتدريس الفلسفة أنهم قادرون على تدريسها بمجرد شرح ما يتضمنه كتابها من مضامين لا تثير اهتمام الطلاب، وغالباً ما يستصعبونها ويعمدون الى حفظها دون فهم؟

إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أنه عملية تحرف الفلسفة بشكل مقصود عن وظيفتها. ولنتذكر قول كانط: “إنه لا توجد فلسفة يمكن تعلمها، يمكننا فقط تعلم التفلسف”. وأن نعلم الطالب التفلسف يعني باختصار شديد أن نعلمه التفكير العقلي، التفكير الذي يسمح له بالتحول من متلق سلبي، أو مجرد وعاء يتم ملؤه بالمعلومات والأفكار، دون أي قدرة له على الشك فيها وتمحيصها وغربلتها ونقدها، إلى شخص فاعل عقلياً وقادر من خلال التفكير على عدم التسليم حتى بأكثر اليقينيات رسوخاً إذا وجد أنها ليست في حقيقتها سوى قناع للأوهام والخرافات…

أن نكون عقولاً فلسفية يعني أن نكون عقولاً جريئة قادرة على هدم كل الأصنام التي تحكم التفكير والسلوك بمطارق العقل النقدي الذي يرفض الاستقالة والاستسلام، ويصر على حقه في التفكير الحر، ذلك أن حق الإنسان في التفكير هو الوجه الآخر لحقه في الحياة، وإلا فما هو الفاصل النوعي الذي يميزه تمييزاً جذرياً عن الحيوان؟

تستطيع الفلسفة أن تفعل الكثير من أجل الانسان لو تم الكف عن تدجينها وتحويلها إلى مادة تساهم مع غيرها من المواد في مصادرة العقل، مما يفتح الباب واسعاً أمام ظهور تلك النماذج البشرية التي يتم التحكم تحكماً كاملاً بأدمغتها، وتحويلها إلى وحوش بشرية لارتكاب أفظع جرائم القتل والتخريب والتدمير خدمة لأعداء الإنسانية والشعوب التائقة الى النهوض والتقدم..

هي دعوة إلى إعادة الاعتبار لهذه المادة النوعية، والكف عن معاملتها وكأنها مادة عادية وثانوية وضعت للامتحان فقط. وقد أذهب إلى حد اعتبارها المادة الأساسية في الفرعين الأدبي والعلمي، شريطة أن يعاد النظر بمنهاجها وطرق تدريسها الفاشلة لأنها، في حال تحقق ذلك، ستكون الوسيلة الفعالة لتحصين الطالب ضد كل أنواع التعصب والتطرف وتجنيبه الوقوع في فخاخهما القاتلة..

أزيد على ذلك بالقول إن الفلسفة يمكن أن تقوم بوظيفة فعالة في نشر الفكر العقلاني والنهوض بالحالة الثقافية في المجتمع إذا ما وجدت طريقها إليه، وخرجت من أسر المدارس والجامعات الى الفضاء المجتمعي الأرحب، إذ ما الذي يمنع من جعلها في متناول الراغبين وإنشاء نواد فلسفية للعموم في المراكز الثقافية مثلاً، وهناك تجارب بهذا الخصوص في دول عديدة أثبتت أن ذلك ممكن ومنتج، وأن الفلسفة ليست كما يزعم أعداؤها علماً نخبوياً خالصاً، أو أكاديمية لا يدخلها إلا المهندسون كما أرادها أفلاطون، بل هي تلك القدرة الضرورية على التفكير النقدي والتساؤل العميق وعدم الرضوخ للمعتقدات الفاسدة في أي ثوب كانت..