دراساتصحيفة البعث

ما شرعية أسطورة تأسيس أمريكا؟

ترجمة وإعداد: علاء العطار

لا تزال أسطورة المؤسّسة الأمريكية سائدة عموماً، لكنها لا تتمتّع بمكانة لا منازع لها، ولاسيما بين الأقليات الملونة، فبينما يرى 39٪ من غير البيض المؤسّسين على أنهم “أبطال”، يجد 31٪ منهم أنهم “أشرار”. إن هذا الفارق في النسبة [9%]، الذي يفصل بين هذه التقييمات المختلفة للغاية داخل مجموعة تضم نحو 30٪ من سكان الولايات المتحدة، يجب أن يكون مصدر قلق للنخب السياسية، استناداً إلى ما كتبه توماس شيرلوك، أستاذ العلوم السياسية في الأكاديمية العسكرية للولايات المتحدة.

كيف يمكننا أن نفهم التنصّل الأخير من النصب التذكارية في الولايات المتحدة التي تخلّد ذكرى أفراد مختلفين مثل كريستوفر كولومبوس، وجورج واشنطن، وروبرت إي لي، ويوليسيس غرانت، وثيودور روزفلت، وودرو ويلسون؟ ما مدى انتشار هذه الظاهرة؟ هل ينذر بـ”منعطف خطير” في السياسة الأمريكية يسمح بخلافات جوهرية حول شرعية الجمهورية؟.

تتنوع أسباب المشكلات الحالية “للديمقراطية” الأمريكية والتحديات التي تواجه رموزها ولكنها تعزّز بعضها البعض. أدّت جائحة كورونا والانكماش الاقتصادي الحاد الذي تلاها ومقتل جورج فلويد بيدي شرطي من مينيابوليس إلى تكثيف التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية طويلة الأمد، ولاسيما نمو التباين في الدخل والاستقطاب السياسي للنخب والجماهير والمعارك الأيديولوجية حول كيفية تحديد المجتمع الأمريكي. تضافرت هذه العوامل لإنتاج مواجهة سياسية شكّلت عاصفة كبيرة تعتبر هجماتها على بعض المعالم التاريخية والسرديات التاريخية المهيمنة نتائج ثانوية مهمّة.

إن التنصل من النصب التذكارية وتدميرها في كثير من الأحيان، والخلافات حول التاريخ الأمريكي التي تمثلها هذه الأعمال قد بدأت من أسفل النظام السياسي الأمريكي ومن أعلاه أيضاً، وفي حين أسقطت بعض التماثيل نتيجة أعمال عفوية أو مخطّط لها لمجموعات من المجتمع، أزالت النخب السياسية والثقافية البعض الآخر بطريقة منظمة. غالباً ما تعتمد إمكانية حدوث مثل هذا الأعمال وكيفية حدوثها على المشهد السياسي المحلي.

على سبيل المثال، في أعقاب وفاة جورج فلويد في 25 أيار من عام 2020 والمظاهرات التي عمّت البلاد في 19 حزيران، أعلن متحف التاريخ الطبيعي أنه سيزيل تمثالاً معروفاً لـ ثيودور روزفلت كان موضوعاً عند مدخل المتحف منذ عام 1940. تعرّض التمثال، الذي يصوّر روزفلت قيادياً على فرس محاطاً بأمريكيين من أصل أفريقي وأمريكيين أصليين راجلين، تعرّض لانتقادات من نشطاء على أنه تمثيل عنصري دام لسنوات. قيّم رئيس المتحف العمل بأنه عنصري في “تكوينه الهرمي”، وأيّد عمدة نيويورك قرار إزالة التمثال.

على نقيض ذلك، أسقطت حشود غاضبة متنوعة الأعراق تمثالاً نصفياً ليوليسيس غرانت وتماثيل أخرى موجودة في حديقة غولدن غيت في سان فرانسيسكو. على الرغم من أن الأمريكيين يحترمون غرانت لدوره المحوري في هزيمة التمرد الكونفدرالي، إلا أنه تعرّض لانتقادات لامتلاكه عبداً لفترة وجيزة ولقراراته عندما كان رئيساً والتي أدت إلى الإساءة الجسيمة لسكان أمريكا الأصليين.

وعلى الرغم من أن إسقاط منحوتات غرانت وروزفلت تعكس أنماطاً مختلفة من التنافس التاريخي، هذه الأعمال وما شابهها هي جزء من نقاش أوسع حول الموروثات السياسية والأيديولوجية لقادة أمريكا التاريخيين، مع التركيز المتزايد على الآباء المؤسّسين للجمهورية. وعلى الرغم من أن الخلاف بين الأكاديميين والنشطاء حول شرعية البانثيون [مدفن عظماء الأمة] الأمريكي، إلا أنه ظل بعيداً عن اهتمام الأمة حتى وقت قريب، وامتد تدريجياً إلى المجتمع على مدار العقد الماضي، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى النقد العام المتزايد للتماثيل والأعلام المرتبطة بالكونفدرالية الأمريكية. قيّم الأمريكيون هذه الأشياء كرموز للعبودية وتفوق العرق الأبيض المعاصر، لا كمجرد قطع أثرية محايدة سياسياً للتاريخ والثقافة.

حشدت المجموعات الناشطة الرأي العام ضد الآثار الكونفدرالية. وبعد فوز الحزب الديمقراطي بالسيطرة على المجلس التشريعي في ولاية فرجينيا في انتخابات عام 2019، أمرت القيادة الجديدة للحزب بإزالة تماثيل وتماثيل نصفية لقادة الكونفدرالية في المباني التشريعية في ريتشموند العاصمة. كما قام المجلس التشريعي بتمكين السلطات المحلية (ودوائرها الانتخابية) لتحديد وضع الآثار الكونفدرالية الأخرى، ما مكّن رئيس بلدية ريتشموند من البدء في إزالة التماثيل الكونفدرالية المثيرة للجدل على طول شارع النصب التذكارية.

اتسع هذا النقاش الوطني ليشمل انتقادات للمؤسّسين الذين كانوا من مُلاك العبيد، واشتد حيث تقاطع مع العوامل المقلقة المذكورة أعلاه، بما في ذلك الاستقطاب السياسي طويل الأمد والضائقة الاجتماعية والاقتصادية لوباء كوفيد-19 الذي أثر بشكل غير متناسب في بعض الأقليات، بمن فيهم الأمريكيون من أصول أفريقية.

المعالم الأثرية للكونفدرالية والمؤسسين

على الرغم من زيادة التأييد الشعبي بين الأمريكيين البيض لحركة “حياة السود مهمة” في أعقاب مقتل جورج فلويد، يعدّ المجتمع الأمريكي بعيداً كل البعد عن الإجماع على إزالة الآثار الكونفدرالية، التي لا تزال في نظر الكثيرين رموزاً قوية للعنصرية. وفي استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك في حزيران 2020، أيّد 52٪ من المشاركين إزالة التماثيل الكونفدرالية من الأماكن العامة، ما يمثل زيادة قدرها 13 نقطة عن استطلاع آب 2017. لكن 44٪ من المستطلعين عارضوا اتخاذ أي إجراء. وكشف الجدل حول “الأماكن التذكارية” الكونفدرالية أيضاً عن صدوع سياسية وعرقية مهمّة، إذ عارض 80٪ من المستجيبين الجمهوريين إزالة التماثيل الكونفدرالية، بينما أيد 85٪ من الديمقراطيين الإجراء. في الوقت نفسه، أيد 84٪ من الأمريكيين الأفارقة ذلك، بينما لم يؤيده 44٪ من الأمريكيين البيض.

ينقسم الرأي العام أيضاً بشأن النشاط القائم على العرق لحركة “حياة السود مهمة”، ففي حين أن 68٪ من المستطلعين يعتقدون أن التمييز ضد السود مشكلة خطيرة و67٪ أيدوا المظاهرات الجماهيرية التي أشعلها مقتل جورج فلويد، كان 51٪ منهم يؤيدون هذه الحركة مقابل 83٪ من الأمريكيين السود. من حيث الانتماء السياسي، أيد 19٪ فقط من الجمهوريين الحركة بينما أعرب 89٪ من الديمقراطيين عن موافقتهم. ومع ذلك، بالنسبة لكل فئة ديموغرافية (الجنس والعرق والعمر والمنطقة والمناطق الحضرية والريفية)، كان لدى أكثرية المستجيبين وجهة نظر إيجابية عن الحركة، من نسبة 71٪ من الفئة العمرية 18 إلى 34 إلى نسبة 42٪ من سكان الريف (لدى 40% وجهة نظر معارضة).

أساطير الولايات المتحدة

إن أساطير التأسيس موارد حيوية توفر إحساساً بالهدف المشترك والمعنى لنظام الحكم. يؤكد المنظّرون أن شرعية حكومة أو دولة قد تتحلّل أو تنجرف، ويتهدّد استقرارها، إذا رفض عدد كافٍ من النخب والجمهور الأساطير والمعتقدات الأساسية. في استطلاع أجري في حزيران 2020، كانت الآراء السلبية لمؤسّسي أمريكا أقوى بين الأمريكيين السود. على سبيل المثال، فضّل 39٪ من السود إزالة التماثيل التي تكرّم جورج واشنطن بينما شارك 19٪ من البيض هذا الرأي. كما توجد انقسامات كبيرة بحسب العرق في الحزب الديمقراطي حول شرعية المؤسسين. كان توماس جيفرسون مالكاً للعبيد، مثل جورج واشنطن، يفضّل 62٪ من الديمقراطيين البيض الاحتفاظ بالنصب التذكارية لجيفرسون بينما يؤيد هذا الموقف 33٪ فقط من الديمقراطيين السود. 80٪ من الجمهوريين يعارضون إزالة التماثيل التي تكرّم جيفرسون، في حين أن 52٪ من الديمقراطيين يشاركونهم هذا الرأي.

أيّد المستجيبون الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم “ليبراليون متشدّدون” الحفاظ على التماثيل لجيفرسون بهامش 47٪ -36٪. أما اليبراليون المعتدلون، فكان هذا الهامش 58٪ -30٪. وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي يضمّ ليبراليين متطرفين ومعتدلين (من السود والبيض) يؤيدون إزالة تماثيل المؤسّسين الذين كانوا من أصحاب العبيد، إلا أن قياداته، بمن فيهم جو بايدن، مرشح الحزب للرئاسة، ونانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، تعارض مثل هذه الإجراءات. لا تزال بيلوسي تعارض علناً إزالة التماثيل والنصب التذكارية للكونفدراليات على أساس الخيانة.

في استطلاع آخر أُجري في تموز 2020، سُئل المستجيبون عن وجوب إزالة “تماثيل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون أو الإبقاء عليها”، ففضّل 46٪ من السود إزالتها (فضل 37٪ الإبقاء عليها). لكن أغلبية واضحة في جميع الفئات الديموغرافية الأخرى أيّدت الوضع الراهن، بما في ذلك 83٪ من الأمريكيين البيض و59٪ من الليبراليين و73٪ من المعتدلين و86٪ من المحافظين. وكان 57٪ من الديمقراطيين المسجلين يؤيدون الإبقاء عليها و90٪ من الجمهوريين.

عند تناول القضية من منظور آخر، سأل الاستطلاع عما إذا كان “من الأفضل وصف مؤسسي الولايات المتحدة بأنهم أشرار أو أبطال”، اختار 39٪ من السود أنهم “أشرار” و31٪ اختاروا أنهم “أبطال”. اختارت الغالبية في جميع الفئات الديموغرافية الأخرى أنهم “أبطال”: 71٪ من الأمريكيين البيض و50٪ من الديمقراطيين و79٪ من الجمهوريين و56٪ من المستقلين. وبهامش أكثر من 2 إلى 1، اختار المشاركون الذين عرّفوا بأنفسهم على أنهم “ليبراليون” أنهم “أبطال”. ومن بين الفئات العمرية، كان الشباب الأمريكي (أقل من 30 عاماً) الأكثر انتقاداً للمؤسسين: 31٪ رأوا أنهم “أشرار” بينما رأى 39٪ المؤسّسين على أنهم “أبطال”. رأى 10٪ فقط من المستطلعين الذين تزيد أعمارهم عن 45 عاماً أن واشنطن وجيفرسون وغيرهما من المؤسسين “أشرار”.

من المرجّح أن يؤكد أي تقييم لشرعية أسطورة التأسيس الأمريكية على أن النخب السياسية متحدة نسبياً بشأن هذه القضية، فالقيادة الحالية للحزب الديمقراطي، وجميع قادة الحزب الجمهوري تقريباً، لا يدعمون نقد المؤسسين. بالنسبة للمجتمع الأمريكي، تشير بيانات الاستطلاع إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين بشكل عام لا يزالون ملتزمين بالنظر بصورة إيجابية إلى الآباء المؤسّسين. وعلى الرغم من المشكلات العميقة وطويلة الأمد التي تواجه أمريكا الآن، لا يزال الغالبية العظمى من المستجيبين في معظم الفئات الديموغرافية يجدون قيمة معيارية في النصب التذكارية والتماثيل التي ترمز إلى أسطورة تأسيس الدولة.

مع ذلك، لا تتمتّع أسطورة التأسيس الأمريكية بمكانة لا منازع لها، وخاصة بين الأقليات الملونة، إذ يعارض الأمريكيون السود، الأكثر انتقاداً لأسطورة التأسيس، إزالة التماثيل التي تكرّم جورج واشنطن بهامش ضيق: 43٪ يعارضون 39٪ يؤيدون. وفي حين أن 39٪ من غير البيض (مجموعة تضم السود والإسبان والأقليات الأخرى) يرون المؤسسين على أنهم “أبطال”، يجد 31٪ منهم أنهم “أشرار”. إن هذه النقاط المئوية التسع التي تفصل بين هذه التقييمات المتباينة جداً داخل مجموعة تضمّ نحو 30٪ من سكان الولايات المتحدة يجب أن تكون مصدر قلق للنخب السياسية، ولاسيما بالنظر إلى أهمية الأساطير التأسيسية للحفاظ على الهوية السياسية الوطنية والاستقرار.