دراساتصحيفة البعث

بين أوروبا الديمقراطية وأوروبا الاجتماعية

 ترجمة: إبراهيم أحمد

عن لوموند ديبلوماتيك

ثمّة شبح يطارد اليسار في مسألة السياسات البديلة من أجل إيجاد حلول لسياسات التقشف التي تدمّر الخدمات العامة، وإغلاق الخلل الديمقراطي في البنوك المركزية، وتفكيك الهياكل التي تسيطر على الشركات الخاصة والحكومات، ووضع حـدّ للمنافسة الزائفة أو عمليات نقل النشاط الصناعي من بلد إلى آخر، واستعادة إمكانية تقديم الدولة للمساعدات.

كل هذا الذي تمـرّ عبره –بالضرورة- سياسة العدالة الاجتماعية، صار من باب المستحيل رسمياً بسبب المعاهدات. وهنا تبرز أهمية إعادة صياغة المعاهدات من جديد، فـ”أوروبا الديمقراطية” هو الوهم الذي عـوّض “أوروبا الاجتماعية”، وهو وهم أتاح ليسار غير متناسق أن يؤجّـل مرة أخرى لحظة مواجهة المشكلة الأوروبية. لكن المعاهدات لا تُعـدّ أخطاء إلا في نظر الذين يعتبرون أن مجموعة سياسية لا يمكنها أن تكون عرجاء لدرجة أن تمنع نفسها أن تتّخذ من جديد قرارات في مجال النقود، والميزانية وانتقال رؤوس الأموال، أي أن تحرم نفسها بشكل طوعي من سياسات وطأتها أشدّ ما تكون على الوضع المادي للشعوب. فالمعاهدات تضطلع بدور وظيفي كامل بالنسبة لعدد ضئيل من طائفة أخرى من الناس.

المأزق الأوروبي

يتمثّل المأزق الأوروبي بسحب محتويات مهمّة من بعض المعاهدات الأهمّ في مجال السياسات العمومية، من مداولات مجلس عادي، لاعتمادها في معاهدات لا تستجيب إلا لإجراءات مراجعة خارقة للعادة، خلل يُبطل بشكل جذري كل ادعاء بإتباع مسار ديمقراطي. إن مراجعة المعاهدات هي وحدها الكفيلة بتركيز برلمان “حقيقي”، يُرجع إليه مجموع مجالات القرار البعيدة المنال من أي مداولة جديدة ذات سيادة، وتكون في مستوى مشروع جعل أوروبا قارة ديمقراطية. ذلك أن الوضع الحالي يجعل تلك المراجعة موضوع رفض قطعي مؤكّد من ألمانيا، إذ أنها ربطت – فعلياً– مشاركتها في “اليورو” بشرط الإبقاء على تقديسها للمعاهدات، إذا آل بها الأمر إلى أن تمثـّل أقلية في هذا المضمار، لأنها فضـّلت سلامة مبادئها على الانتماء إلى الاتحاد. والمعضلة التي على “اليسار الأوروبي الديمقراطي” أن يتدبّرها هي إضفاء ديمقراطية (حقيقية) على اليورو والذي يقتضي إعادة صياغة المعاهدات، ولكن إعادة صياغة تلك المعاهدات ستشهد دون أدنى شك، مغادرة ألمانيا، وانكسار اليورو.

المقترحات النيوليبرالية

بالنسبة للذين يقبلون النظر إلى التناقض، ويفضّلون السياسات التقـدّمية على جعل اليورو وثناً يعبدونه، فليست المشكلة –مع ذلك– بأقلّ حـدة. ما من شك في أن ردّ الفعل السطحي ذاك يشهد على إلحاح وهم “اليورو الآخر”، وهو وهم لم تكفِ الكارثة التي أصابت اليونان لكسر عنقه، إلا أن هناك جزءاً غير يسير من الرأي العام اليساري، ينتقد، المحتويات الخصوصية للسياسات الأوروبية، وما ينتج عنها من ضغوط وإكراهات على مسار السياسات الوطنية، وسيترتب على الطبقة المتعلمة، التي تعتقد نفسها في طليعة العقلانية في المجتمع أن تكون في أعلى المراتب الأخلاقية، مهما كان الثمن الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة إلى الآخرين. والسؤال المطروح: كيف يمكن الإمساك بقوس ينطلق من الطبقات الشعبية وهي تضع على المحكّ؟.

إن حـلّ المعضلة الأوروبية بالنسبة إلى اليسار يتمثـّل في عدم ترك الطبقة المتعلّمة يتيمة أوروبا، وفي إعطائها أفقاً تاريخياً أوروبياً بديلاً. في ضوء ذلك ينبغي على أوروبا أن تسـدّد ديـناً ضخماً للطبقات الشعبية، لأنها ستستفيد من تذكّر ذلك، لا باسم اقتصاد طلب المغفرة والتدارك، بل إنه من فائدتها السياسية بأن تكون تلك الطبقات إلى جانبها. وإذا رغبت أوروبا الجديدة تلك، وقد تخلّصت من اليورو، أن تعيد بعض علاقاتها مع تلك الطبقات، فمن الأفضل لها أن تتوجّه إليها، وأول ما يكون ذلك بلغتها هي، لغة التدخـل المالي المحسوسة، وليس لها من وسيلة إلى ذلك –حتى تكون مرغوباً فيها- أبسط من أن تقوم مقام الدول التي لم تضطلع بواجبها تجاه تلك الطبقات، والتي صارت كذلك بسبب سيادة العملة الوحيدة، ويكون ذلك ببرامج واسعة المدى لردّ الاعتبار للضواحي الفقيرة، وردم الفجوة الرقمية، وتركيز صناديق لإعادة النشاط الصناعي، وتمويل شبكات التربية الشعبية.

ليس الأمر أن يكون هناك انطلاق من عدم، ولا على أن شيئاً من كل ذلك لم يكن من قبل، إذ شهدنا تركيز برنامج «إيراسموس»، والصندوق الأوروبي للتنمية الجهوية (فيدار) وغيرهما. لكن يجب توسيع مجالهما بشكل كبير، وتوسيع رقعة المستفيدين منهما أيضاً، بتوجيههما بشكل مخصّص لطبقات من المستفيدين ظلت إلى اليوم مهملة تماماً، وإيلاء هذه الأعمال كلّها مـدى غير مسبوق، وجمعها في خطاب ذي بعد تاريخي، وبرمجة تعبيرات مؤسـّساتية جديدة واضحة لمزيد إكساب ذلك الخطاب صدقية وإقناعاً. هي تعبيرات ضرورية، من جهة ثانية، لأنه لا بد من هيئة قادرة على اتخاذ القرار بشأن مجالات التدخل وحجمها وتوزيعها. وإذا لم يكن كذلك، فماذا عسى أن يكون المجلس؟.

في الوقت الحالي يبدو «برلمان اليورو» هو برلمان بمثابة ظل ديمقراطي زائف مرصود لتغطية لاديمقراطية الاتحاد النقدي. وهذا الوضع يتطلب تحـوّلاً جذرياً، لأنه من دون ذلك لن تتوصل أوروبا إلى استعادة ما كانت تحظى به من حب الشعوب وتعلـقها بها، إلا بأن تردّ لها كل ما منعته عنها.