ثقافةصحيفة البعث

إدوارد سعيد.. عدوّ الكولونيالية

يذكر المفكر العربي إدوارد سعيد -والذي صادفت ذكرى وفاته يوم 25-9 من عام 2003- أن دافعه الأكبر لتأليف كتابه الأهم “الاستشراق” كان المشاعر الخاصة التي عاشها أثناء مشاهدة وسماع أخبار حرب 1973، ويقول في هذا الصدد: “عندما شاهدت لأول مرة في حياتي نجاحاً عسكرياً عربياً، قبل ذلك كانت تجربة النكسة 1967 مدمّرة بالنسبة لي ولكل شيء ترعرعت في كنفه، أتذكر مثلاً في الصف رقم 57 في برنستون، -وقد ذكرت هذا في كتابي الاستشراق- أنه في حفل جمع الشمل العاشر عام 1967 والذي حدث مباشرة بعد الحرب، كان يُفترض بنا ارتداء زي موحد معيّن – وكان زياً عربياً- لكنهم غيّروه لاحقاً، كان بإمكانك ارتداء الزي العربي، وأنت حافي القدمين ومرفوع اليدين، أي أن العرب أصبحوا تمثيلاً للهزيمة والخضوع والهوان وما إلى ذلك، ولكن مع بداية حرب 1973 كان الشيء الذي وجدته حماسياً، هو الاندفاع العارم الذي شهده العالم فجأة في الحرب، مثل عبور القناة والتقدّم في الجولان، ثم بدأت برؤية هذا النوع من المعارك كصور تمثيلية خُلعت على العرب، وكان أمراً مثيراً لاهتمامي، فهذه الصور التمثيلية لم تكن ذات علاقة كبيرة بالتجارب المُعاشة داخل العالم العربي، وهو ما كان دائماً موضوعي الرئيسي، ثم بدأت بالعمل على الفكرة بطريقة علمية مقتفياً أثر الظاهرة منذ العصور الوسطى”.

المفكر الكبير لم يقدّم في كتابه فكرة بحثية تخصّ العرب فقط، بل أصبح محطّ اهتمام المتخصّصين في هذا المجال عند شعوب أخرى، كالهند والصين وأفريقيا.. وغيرهم ممن عانوا من الصور النمطية للاستعمار الغربي والكليشهات التي استعملها لفرض هيمنته.

الكتاب لاقى ردة فعل عنيفة في الأوساط الاستشراقية الغربية، فالباحث والمستشرق البريطاني “برنارد لويس” احتاج 4 أعوام ليردّ عليه، في صفحات جريدة “نيويورك ريفيو”، والتي أعطته مساحة 15 ألف كلمة ليشنّ هجومه اللاذع. كبار السن كانوا الأكثر استياء بين أوساط الباحثين الغربيين، لأن الكتاب لامس حقيقة أنهم لم يكونوا أصحاب تلك التجارب البحثية، وإنما كتبوا عنها فقط، فمسألة الاستشراق برمتها تعلقت جزئياً بطبيعة الجمهور المُستهلك لهذه الصور، والذي لم يكن جمهوراً شرقياً، بل كان من هؤلاء المفكرين الغربيين، الذين كتبوا بعضهم لبعض في حلقة مفرغة، أخذت تتناقل الصورة النمطية ذاتها وتكبّرها مثل سلسلة من المرايا المتقابلة، أما بالنسبة لتفاعل جيل الشباب فقد كان الأكثر إثارة للاهتمام، حتى أن أعضاء المنظمات التي انتقدها في الكتاب، مثل “مركز دراسات الشرق الأوسط”، اعتمدوا الكتاب مرجعاً بحثياً مهماً، ما أدى إلى نوع من التغيير الجذري في الاهتمامات بين أوساط ذلك الجيل الذي أصبح حساساً جداً بخصوص مسألة الاستشراق.

واحدة من الأطروحات التي يقدّمها الكتاب، هي التمييز بين ثلاث نقاط، الأولى: مسألة انقسام العالم بين مشرق ومغرب، إذ يوضح أن هذا الانقسام تاريخي، ويطلق عليه مسمّى “الجغرافية التخيلية” لأنه لا وجود على الخريطة لخط يقول من هنا يبدأ هذا أو ذاك. الأمر الثاني هو أنه في نهاية القرن التاسع الميلادي، أصبحت هوية الشرق مرتبطة بالإسلام، لذلك بعد أول 400 إلى 600 سنة من ظهور الإسلام، كانت الكتابة في أوروبا عن الشرقيين هجومية، فتمّ تصويره كأرض للعجائب، تكتظ بأشخاص من أصحاب الأطوار الغريبة، ومكان للردة والهرطقات التي تتحدى المسيحية وتهدّدها. الأمر الثالث هو أن الاستشراق في نهاية القرن 18 وبسبب غزو نابليون لمصر، أصبح منهجاً علمياً لدراسة الشرق ولم يعد مجرد صور وخيالات، ونوعاً من التجوال في البعيد المجهول، بل أصبحت المحاولات علمية وبتمويل استعماري لاستجلائه واستكشافه، لذا كانت حملة نابليون على مصر بالغة الأهمية، لأنه كان أول محتل يُخلف وراءه مرجعاً علمياً وهو كتاب “وصف مصر”. نابليون أخذ معه فريقاً علمياً، علماء آثار وأحياء وأنثروبولوجيا ولغويون ومن مختلف التخصّصات المشابهة، فكان الكتاب جهداً واعياً، هائلاً، لاستخراج مصر تلك البلاد البعيدة الغامضة، ووضعها على طاولة الدراسات الأوروبية، ومن ثم أصبحت باريس مركزاً للدراسات الاستشراقية.

إدوارد سعيد يضرب أمثلة عن تأثير كتاب “وصف مصر” على الذهنية البحثية الأوروبية، ومنها ذهاب الشاعر الفرنسي جيرار دي نيرفال إلى سورية عام 1846 وقيامه بتأليف كتاب (رحلة إلى الشرق)، وعنه قال: “اعتقدت أن كتابه وصف لسورية، لكنه بدا كما لو أنه يتحدث عن سورية أخرى، لم أشاهدها من قبل، واتضح في الواقع أنه كان يتحدث عن مصر، لأنه قرأ كتاب (وصف مصر) وحفظ نصفه عن ظهر قلب، وما فيه من عادات وأزياء وتفاصيل جغرافية، وأصبح مرجعيته لاحقاً لدرجة أنه تجاهل الدلائل الحسية وما كان يراه بالعين المجردة”. هذه العادة في تقييم الشرق بناءً على دراساتهم وليس على الواقع، تسرّبت إلى الباحثين ثم إلى الروائيين، ومن أمثلتهم اللورد كرومر، الذي يُمثل جيلاً تالياً لهؤلاء، فقد سبق له أن خدم في الهند، قبل أن يصبح مندوباً سامياً في مصر، وهو يجعل من الشرق مجدداً مكاناً غير متمايز، فجميع المناطق متشابهة وجميع الشرقيين لا يستطيعون التفكير ولا قول الحقيقة ولا المشي في خطوط مستقيمة ويكرهون السير على الأرصفة.

في آخر الكتاب يتناول “سعيد” التجربة الاستعمارية الجديدة، التي تمثّلت في استيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على الشرق، بعد تحرّره من الاستعمار الكلاسيكي، كما أن سيطرتهم كانت أكثر تنميطاً، بسبب الافتقار إلى تاريخ من انعدام التفاعل والبعد الجغرافي الأكبر مما هو في الحالة الأوروبية.

ما سعى إليه الباحث والمفكر العربي إدوارد سعيد في كتبه اللاحقة أيضاً، ليس فقط تحرير العقل العربي أو الشرقي أو الإسلامي من هذه الظاهرة، بل أيضاً تحرير الباحثين الغربيين من هذه الذهنية.

تمّام علي بركات