دراساتصحيفة البعث

سائقو سيارات الأجرة الألمان يعرفون كل شيء؟

إعداد: هيفاء علي

يقول الكاتب الروسي ديمتري أورلوف: “منذ يومين، كنت عائداً إلى مكان إقامتي في ألمانيا بسيارة أجرة، وكان سائق السيارة الألماني ثرثاراً جداً لم يتوقف لحظة عن التحدث على طول الطريق حول كل شيء من الطقس إلى الشقراوات”.

وفيما كان الراديو يبثّ الأخبار عن تسميم أليكسي نافالني، ومشروع  “نوردستريم 2″، والعقوبات المحتملة من الاتحاد الأوروبي، هزّ سائق التاكسي رأسه قائلاً: “هذه المرة، أمي عالقة…”، سأله أورلوف من هي أمك، ليجيب السائق على الفور “إنها المستشارة إنجيلا ميركل”.

ثم سأله: هل تعرف لماذا تمّ تسليم نافالني إلى ألمانيا؟ لمدة ربع ساعة، قدّم سائق التاكسي نظرية متماسكة لما حدث، تستحق الدراسة في وزارة الخارجية، والتي أجابت عن جميع الأسئلة التي كانت تدور في رأس أورلوف.

وإليكم القصة كاملة كما رواها سائق سيارة الأجرة:

في بداية شهر آب الماضي، كان الجميع يستعدّ للانتخابات في بيلاروسيا، بمن فيهم روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. لقد كانت لعبة مثيرة يراهن فيها الجميع على مرشحهم، ولكن ما تمّت ملاحظته لم يكن سوى قمة الجبل الجليدي، لأن التيارات تحت الماء لم تكن معروفة إلا لعدد قليل، كانت موسكو ومينسك تكسران الأطباق بشكل واضح، وتصرخان على بعضهما البعض، وتشدان بعضها البعض من الشعر، ما خلق الوهم بانهيار تام للعلاقات.

أما أوروبا، السعيدة والهادئة، فقد فركت يديها واستعدت لتطرد “آخر ديكتاتور في أوروبا” وتثبت نسخة بيلاروسية من خوان غوايدو في مينسك، وتلتقط هذه القطعة من رقعة الشطرنج.

جرت الانتخابات، والجميع يترقب، ودون عناء انتظار نتائج الانتخابات، وبناءً على طلب من وسائل الإعلام البولندية الاستفزازية “نيكستا”، انتقلت المعارضة البيلاروسية البيضاء والحمراء إلى ساحة المعركة ورفعت علم المحتل النازي!.

في البداية، سار كل شيء كما هو مخطّط له، حيث اندفعت حشود متحمّسة من الأبيض والأحمر إلى الشوارع وبدأت في تهديد الشرطة والمسؤولين والصحفيين، مما أدى إلى مناوشات وإضرابات. تحدث السفيران السلوفاكي والإسباني في بيلاروسيا لمصلحة المتظاهرين، و”انحازا إلى جانب الشعب”، وبدا الأمر وكأن لوكاشينكو كان على وشك الانهيار. ولكن بعد ذلك تدخلت موسكو وبدأت تقدّم دعمها تنظيمياً ومالياً، فيما كان على أوروبا تصعيد الضغط، ولكن كيف؟.

كانت “نيكستا” البولونية خرجت عن مسارها وانكبت على تحريض النشطاء ليكونوا أكثر نشاطاً، لكنهم فشلوا في كسب اليد العليا في محاولاتهم للاستيلاء على السلطة، حيث تبيّن أنهم ضعفاء للغاية، مقارنة بشعبهم، وبعد ذلك تمّ تسميم نافالني.

اتصل عملاء من وزارة الخارجية الألمانية، الذين تعاطفوا مع حزب شرويدر، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، اتصلوا بـ يوليا نافالني (زوجته) وعرضوا إدخالها إلى المستشفى في عيادة في ألمانيا التي وافقت على العرض. ثم دخل وزير الخارجية الألماني إلى مكتب المستشارة الألمانية ووضع ورقة الجوكر التي بيده على الطاولة: “يمكننا الذهاب للعثور على نافالني للعلاج، إذا حاولت موسكو منع ذلك، فسوف نتسبّب بفضيحة مدوية، سيكون لدينا جسده وبعد ذلك سنقرّر كيفية اللعب”. وجدت ميركل أن هذا الاقتراح جذاب ووافقت عليه، ولم تفكر فيه طويلاً، في حين أن موسكو لم تعارض نقل نافالني.

بعد إحضار نافالني إلى ألمانيا وإيصاله إلى عيادة “Charity” في موكب يتكوّن من 12 سيارة، اتصلت ميركل بموسكو لحثها على التوقف عن دعم لوكاشينكو، وإلا فسوف نعلن أن نافالني قد تسمّم بـ”نوفيتشوك”. رفضت موسكو الإذعان لشروط وابتزاز ميركل وزادت دعمها لـ لوكاشينكو، وأكدت أنها نظّمت احتياطياً من القوات الخاصة الجاهزة للإرسال إلى بيلاروسيا في حال قيام شخص ما بخطوة مفاجئة.

في اليوم التالي، أعلنت برلين أن نتائج الاختبار أظهرت تسمماً بمثبطات الكولينستريز. ثم كانت هناك مكالمة هاتفية أخرى للتحذير من العثور على سموم “نوفيتشوك” في المرة القادمة، رفضت موسكو كل هذه التهديدات، ووعدت مينسك بمليار دولار في اليوم نفسه.

نفد صبر برلين ما دفعها إلى نقل نافالني على الفور إلى مستشفى عسكري، حيث “اكتشف” على الفور أنه تسمّم بـسموم “نوفيتشوك”. في حين أنه لم يكن من الممكن العثور على” نوفيتشوك” أثناء وجوده في Charité ، حيث يمكن للصحفيين والمسؤولين أن يطلبوا رؤية نتائج الاختبارات، بينما في المستشفى العسكري تمّ رفض مثل هذه الطلبات بذريعة سرية المعلومات. لكن حتى هذه السموم “نوفيتشوك” لم تستطع إجبار موسكو على التوقف عن دعم مينسك، حيث تمّ إرسال رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين إلى مينسك مع حقيبة مليئة بالأوراق للتوقيع.

تبع ذلك محاولة من قبل فريتز ميرز، نائب أنجيلا ميركل في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، للضغط على ميركل لإغلاق الملف المتعلق بمشروع “نوردستريم2″، لكن سرعان ما تمّ إسكاته من قبل لوبي الشركات الألمانية التي استثمرت فيه، وانغمس في جحره وهو يئنّ ويتأوه.

بعد ذلك، قدّم لوكاشينكو اعتراضاً على الاتصالات الدبلوماسية السرية بين بولندا وألمانيا التي ناقشوا فيها خططهم لتسميم نافالني، وهم جالسون في وارسو وبرلين ولا يعرفون كيف يتفاعلون مع هذا الفيلم أو ينكرون أو يتظاهرون بأنهم لم يلاحظوا.

وبالتالي فإن النتيجة الوسيطة هي ما يلي: “نافالني على قيد الحياة وبصحة جيدة ولا يزال في مستشفى عسكري ألماني، ويتساءل بشكل دوري عن موعد السماح له بالعودة إلى المنزل.. لكن لن يُسمح له بالعودة إلى المنزل في أي وقت قريب”.

الآن، ومع اقتراب موعد الانتخابات، مع بدء الحملة الانتخابية البرلمانية في ألمانيا، لا يحظى تحالف ميركل /الاتحاد المسيحي الديمقراطي/ الاتحاد المسيحي الاجتماعي بدعم شعبي كبير.

وعليه، إذا أعلنت ميركل أن هذه هي جريمة القرن التي تمّ فيها تسميم شخصية معارضة روسية بارزة بـسموم “نوفيتشوك”، فستضطر إلى قطع كل العلاقات مع روسيا وتقديم الأدلة، ولكن لن يكون هناك أي دليل لتقديمه، ولن يسمح لها أحد بتجميد استكمال خط الأنابيب. خلاف ذلك، فإن الشركات الألمانية، التي استثمرت في “نوردستريم2″، ستقتحم البرلمان حتى قبل المواطنين الألمان الغاضبين، وفي كلتا الحالتين، سيواجه تحالف ميركل الهزيمة.

حتى إذا تراجعت واعتذرت وأعادت نافالني إلى روسيا، مدعيةً أن ما حدث كان سلسلة مؤسفة من الأخطاء، ومعاقبة كل من وضعها في هذا الموقف إلى أقصى حدّ بالقانون الألماني، فإن هذا لن ينقذ الوضع أيضاً، لن يغفر الناخبون الألمان لميركل خسارة ألمانيا للسلطة الدولية، وفقدان النفوذ في أوروبا، وعدم الكفاءة الكاملة في إدارة الشؤون الخارجية، وسيعاقبونها على أي حال في صناديق الاقتراع. لذلك تجد المستشارة الألمانية نفسها في مأزق لا تُحسد عليه، وهناك احتمال انسحابها قبيل نهاية ولايتها، وفي هذه الحالة لن تحطم الرقم القياسي الخاص بـ هيلموت كول 16 عاماً مستشاراً.

أما صديق روسيا غيرهارد شرودر، وبصفته رئيس مجلس إدارة مشروع “نوردستريم 2″، وزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطيSPD، فإنه يتطلع إلى المستقبل بثقة وتفاؤل. على أي حال، سوف ينكمش تحالف الاتحاد المسيحي الديمقراطي/ الاتحاد المسيحي الاجتماعي، وسيعزّز الحزب الاشتراكي الديمقراطي موقعه في البوندستاغ، سواء بشكل مستقل أو في ائتلاف مع أحزاب أخرى، سوف يعيّن زعيمه كمستشار. فيما سيتمّ الانتهاء من “نوردستريم2” الذي كان في مأزق سياسي لبضع سنوات، وسيدخل الخدمة الكاملة بسرعة كبيرة.