الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عكا.. والبحر!

حسن حميد

أعرف، وتعرفون، أيها القرّاء الكرام، أن الحديث المُرّ بطعومه وغاياته يتكاثر في هذه الآونة حول التطبيع، وأن القلوب تئن وتتوجع كلما ارتفع صوت سياسي عربي منادياً بالتفريط بكل ما هو عزيز ونبيل، وأن الأعين تدمع، والشفاه ترتجف، وأن رعدة وطنية تجول في العروق هاتفت سائلةً لماذا يحدث هذا، ولصالح من، ولماذا نجهر بالعجز، ونرضى بالمذلة؟!

وهو سؤال مشروع لأن هذه القرارات الخرقاء المنادية بالتطبيع مع عدو غاشم صلف عنصري هي قرارات خرقاء حقاً لأن هذا العدو احتل الأرض، وسرق التاريخ، وداس المقدسات، وشرّد وهجّر الشعب الفلسطيني كله إلا قليلاً، واقترف المجازر، وسجن، واغتال، ودمر، وخرّب، وبطش، وعذّب، وصك القوانين والأوامر الاستعمارية، وغيّب الحريات، وشل الإبداع، وطوى الروح الوطنية، وهوّد، وغيّر التواريخ والأمكنة والرؤى والاتجاهات والمعتقدات والطرق والأحياء والثقافة والفنون، وسلب من هم تحت احتلاله الحرية وهي جوهر حياة الإنسان.. لهذا فإن هذه القرارات هي الانحدار المذل المشين نحو قاع ليس فيها سوى الجحيم بعينه! وهي قرارات، رغم سقفها السياسي، لا قيمة لها لأنها صادرة عن جهات سياسية، وليست صادرة عن الشعب، وهي قرارات لا قيمة لها إن لم يستجب لها الشعب الفلسطيني بالانحناء أو القبول، قد يقبل العالم كله بالكيانية الصهيونية ذات التكوين الشيطاني، والمدعومة بالقوة الشيطانية العالمية كلها، ولكن هذا القبول لا قيمة له إن لم يقبل به أو يعترف به أو يرضى به أبناء الشعب الفلسطيني، وقد يوقّع العالم كله، إلا من عصم ربك، موافقاً وراضياً بمثل هذا التطبيع مع العدو القاتل المحتل الغاصب، ولكن هذا التوقيع العالمي لا قيمة له بالمطلق، إن لم يوقّع الشعب الفلسطيني قبولاً بهذا التطبيع، وقد يوقّع بعض أهل السياسة من الفلسطينيين على مثل هذا التطبيع قبولاً تحت أي سبب أو ضغط، ولكن توقيعهم أيضاً لا قيمة له لأنه ليس توقيع الشعب.

أقول هذا، وفي بال العرب جميعاً، ومنهم الفلسطينيون، ما حدث في الجزائر، فهناك الاحتلال استمر طويلاً، ويكاد زمنه يكون ضعف الزمن الذي مضى على احتلال الصهاينة لفلسطين، وأن مساحة الجزائر أكبر من مساحة فلسطين بمرات ومرات، وأن شعب الجزائر أكثر عديداً من الفلسطينيين مرات ومرات، وأن جلافة وحقد وغطرسة الفرنسيين كانت مماثلة إذا ما قسناها بما يفعله الصهاينة في فلسطين، ومع ذلك ظلَّ الفرنسي المحتل لأرض الجزائر محتلاً وغريباً مع أنه فرض لغته وتقاليده وعاداته وأنماط سلوكه، على الجزائريين، أي كما يفعل الصهاينة في فلسطين منذ سبعين سنة وأزيد، ومع ذلك ظلَّ الفرنسي محتلاً وغريباً، مثلما هو الصهيوني فوق الأرض الفلسطينية محتلاً وغريباً، وقد كانت قناعة الفرنسيين بأن الأرض الجزائرية أرض فرنسية خلف البحر الأبيض المتوسط، مثل ما هو الصهيوني اليوم على قناعة بأن أرض فلسطين هي أرض للصهاينة واليهود، ومع ذلك طُرد الفرنسي من الجزائر وخرج مدحوراً لأنه غريب ومحتل، وبلا جذور، وبلا مؤيدات إنسانية، وهذه هي حال الصهاينة في فلسطين اليوم أيضاً. فهم محتلون وغرباء، وراحلون لا محالة!

ودرس آخر يعرفه الصهاينة، ويدرسونه في كل ساعة ويوم وسنة، يتمثّل في غزوة الفرنجة لهذه البلاد العزيزة، وقد جعلوا من القدس عاصمة لشرورهم ومفاعيل قوتهم الباطشة، لكنهم، وبعد (200) سنة خرجوا مدحورين، مع أنهم بنوا القلاع، لأنهم محتلون وغرباء..

ولهذا فإن التطبيع هو دورة مذلة وإذلال لبعض السياسات العربية التي عاشت حياتها خوفاً من الصهاينة وشرورهم، وخوفاً من الأمريكان وشرورهم، ومآل هذه الدورة هو التلاشي والمحو، لأن عكا لو خافت من البحر.. ما جاورته!

Hasanhamid55@yahoo.com