مجلة البعث الأسبوعية

اضطراب العلاقات الجيوسياسية للولايات المتحدة والصين وروسيا

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
منذ منتصف القرن العشرين، تعد التعقيدات داخل المثلث الاستراتيجي (الصين والاتحاد السوفييتي/ روسيا، والولايات المتحدة) من أكثر الموضوعات جاذبية وإثارة للاهتمام، وهي تشكل محور العديد من التوقعات والتكهنات والتحليلات العلمية، وتوفر رؤية لرجال السياسة. ويتضمن التاريخ الكامل لهذا الهيكل الجيوسياسي محاولات مستمرة من قبل كل طرف، فالدول تبحث عن مصالحها، وتصوغ عناصر الردع. ويستتبع هذا المنطق أن “كل فريق يلعب لنفسه”، أو “اثنين ضد واحد”. لكن التكوين الحالي للعلاقات في هذا المثلث ليس نسخة طبق الأصل عن العلاقات السابقة، حيث نشاهد الآن مزيجاً من “واحد ضد اثنين”، إذ تلعب الولايات المتحدة في وقت واحد ضد روسيا والصين. والبيت الأبيض هو البادئ في اللعبتين، ولقد أكد قادة روسيا والصين مراراً أن شراكتهما الاستراتيجية هي تعاون لا يستهدف قوة ثالثة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولا كتلة دول.
ومع ذلك، فإن النخب السياسية الأمريكية ساخطة بسبب فشلها في تغيير النظام السياسي في كل من روسيا والصين، وكذلك لفشلها في ربط البلدين كتابعين في الهيكلية العالمية التي تعود بالنفع على الولايات المتحدة، وتسيطر عليها واشنطن. لذلك أطلقت على البلدين صفة “المنافسين الاستراتيجيين”، ولجأت إلى وسائل وأساليب مختلفة لإضعافهما، وإبطاء تنميتهما. وتعمل النخب الأمريكية جاهدة لتقويض الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للدول الأخرى، وكذلك توريطها ضد بعضها البعض، وتستخدم الضغط السياسي والابتزاز الاقتصادي والتخريب الإيديولوجي لتحقيق هذا الهدف. ويدور الصراع مع الصين في المقام الأول على الجبهتين الاقتصادية والتكنولوجية فيما يتم الصراع ضد روسيا في مجال السياسة العالمية والإقليمية. وفي هذه الأثناء، تقدم الدعاية الغربية روسيا والصين على أنهما عدوين لدودين للقيم الغربية “الأمريكية” في الحرية والديمقراطية. ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، في آذار 2020، يرى 62% من الأمريكيين أن الصين تشكل تهديداً للولايات المتحدة، في حين يعتقد 56% الشيء نفسه بالنسبة لروسيا.
ونظراً للمشاعر المعادية لروسيا والصين داخل الحزبين الرئيسيين، والجمهور في الولايات المتحدة، لا يكاد أي من الاستراتيجيين الأمريكيين يفكر اليوم بـ “صداقة” تكتيكية مع روسيا أو الصين لاستخدامها ضد الأخرى، كما حدث في السبعينيات. فالنخبة السياسية منقسمة داخلياً، لكنها غير متسامحة مع المعارضين وعدوانية للغاية. إنهم لا يفكرون حتى في البحث عن حلول وسط أو مفيدة للطرفين. وتراهن هذه العصابة الغنية علناً على الضغط القوي والصدام المباشر مع كل الخصوم أو المنافسين الحقيقيين أو المحتملين للولايات المتحدة. وتعتبر أن كل الوسائل مباحة لذلك، ولا سيما تلك المستمدة من المبدأ الأساسي للدبلوماسية الأنغلوسكسونية “فرق تسد”. لذلك، لا تظهر واشنطن حتى الحد الأدنى من الرغبة في تحويل العلاقات مع موسكو أو بكين إلى حوار إيجابي ثلاثي. وبدلاً من ذلك، تسعى جاهدة لدق إسفين بين موسكو وبكين، وزرع بذور الشك وعدم الثقة والشك والعداء بينهما.

في منتصف العقد الأول من القرن 21، أدركت واشنطن أن موسكو لا تنوي اتباع الاتجاه السائد لسياسة الولايات المتحدة، وأنها مصممة على الرد في حالة التعدي على المصالح الحيوية لروسيا. في الوقت نفسه، تم النظر إلى الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية باعتبارها واحدة من التحديات الخطيرة لمصالح وسياسة الولايات المتحدة. وفي خريف عام 2006، عقد مؤتمر في وزارة الخارجية الأمريكية، حول العلاقات الأمريكية الصينية للأعوام 1969-1980، حضره العديد من الشخصيات الرئيسية التي شكلت السياسة الأمريكية تجاه الصين في ذلك الوقت، وقال المتحدث الرئيسي فيليب دي زيليكو، مستشار وزارة الخارجية الأمريكية: “نحن بحاجة إلى الصينيين لتأديب الروس”. في وقت لاحق، بعد أن أكدت روسيا وجودها في مؤتمر ميونيخ للأمن (2007)، وشمال القوقاز (2008)، أطلق هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي الفكرة المثيرة لتقسيم العالم بين الولايات المتحدة والصين، لتشكيل قطبين. وعموماً، من الصعب تخيل أن الولايات المتحدة ستوافق على التنازل عن شبر واحد من مقعدها المفضل على قمة جبل أوليمبوس، ولا سيما لـ “بكين الشمولية” المتخيلة.
هذا الطرح بطبيعته شكّل استفزازاً مقنّعاً ضد الكرملين، لكنه نجح، إذ أخذ بعض السياسيين والخبراء الروس الفكرة جدياً على أنها نية مبيتة لتقسيم العالم، ونوع من الشراكة “بين المدخر الكبير والمنفق الكبير”. وعلى الرغم من حقيقة أن الصين رفضت رسمياً مناقشة مثل هذه الصفقة، فإن وسائل الإعلام العالمية، المتعطشة للإثارة، ابتلعت طُعم آفاق بناء “عالم أمريكي صيني” بكل الطرق.

بالتوازي مع ذلك، بدأت واشنطن تلعب بالورقة الروسية ضد الصين. كانت الأوساط الأكاديمية والصحفية الأمريكية تتحدث عن “التهديد الأصفر”، محذرة الروس من عواقب “التوسع الصيني” في سيبيريا والشرق الأقصى. وقد ظهرت مئات المقالات حول هذا الموضوع في المجلات ووسائل الإعلام الالكترونية والمطبوعة في الولايات المتحدة وأوروبا. كما تجد هذه الدعاية الهائلة أيضاً جمهورها في روسيا، حيث تتم محاولة إحياء المشاعر المعادية للصين وتعزيزها بالعودة إلى المواجهة السوفيتية الصينية في التسعينيات. ووفقاً للتقديرات، فإن هذه المشاعر تلاقي استجابة من 20 – 25% من الأشخاص الذين يعيشون في روسيا المحيط الهادي.
ومع ذلك، من الواضح أن الغالبية العظمى من الروس يؤيدون تطوير العلاقات مع الصين. ووفقاً لمركز بيو للأبحاث، فإن 71% من الروس لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الصين، كما أظهر استطلاع أجرته “مؤسسة الرأي العام” الروسية، في عام 2019، أن 51% من الروس يعتبرون العلاقات مع الصين “الأقرب والأكثر ودية”. وصنف 1٪ فقط الصين على أنها دولة “غير صديقة”.
ما يقرب من نصف سكان الأراضي الروسية المتاخمة للصين (48%) يؤيدون أولوية تنمية العلاقات الاقتصادية مع الصين. وفقط 4% هناك يرون أن آفاق العلاقات “سيئة”. ومع ذلك، فإن المشاعر السلبية موجودة بالفعل لدى الصين، ​​وهناك الحديث عن “التهديد الروسي”، والتشكيك بمصداقية روسيا كشريك، ومحدودية آفاق الشراكة معها، والخشية من استعدادها للتوصل إلى اتفاق مع واشنطن من وراء ظهر بكين. لكن مؤامرة محتملة بين روسيا والولايات المتحدة ضد الصين تبدو أشبه بخيال غير علمي أكثر من كونها توقعات قائمة على أسس منطقية، على الأقل لأن السلطات الروسية والمواطنين العاديون لا يثقون بالسياسيين الأمريكيين. وهناك 71% من الروس يعتبرون الولايات المتحدة دولة غير صديقة. وأظهرت دراسة أجراها مختبر أبحاث الرأي العام التابع لمعهد التاريخ التابع لفرع الشرق الأقصى لأكاديمية العلوم الروسية (فلاديفوستوك) أن 42% من سكان أراضي المحيط الهادئ الروسية المتاخمة للصين ينظرون إلى سياسة الولايات المتحدة باعتبارها تهديداً للمصالح الروسية، و7% فقط يرون أن الولايات المتحدة شريك اقتصادي رئيسي. وتسمح لنا هذه المشاعر بالافتراض أن محاولات واشنطن لجعل روسيا تتصارع مع الصين محكوم عليها بالفشل. لكن هذا الحال ليس سبباً للاطمئنان، إذ تتمتع الولايات المتحدة بخبرة كبيرة في المؤامرات السياسية وألعاب الكواليس، وسوف تعمل الكثير لتعكير العلاقة بين روسيا والصين.
بالانتقال إلى الماضي، يمكن للمرء أن يتذكر قصصاً شبه بوليسية حول كيفية قيام الولايات المتحدة بتجيير مسار العلاقات الروسية الصينية من أجل مصالحها. كانت تلك محاولات أمريكية لكسب موطئ قدم في سيبيريا، في منتصف القرن التاسع عشر، ودفعها اليابان لخوض الحرب ضد روسيا في أوائل القرن العشرين، ومغازلة غير متوقعة للقادة السوفييت في أواخر الخمسينيات، وكذلك للقادة الصينيين في أوائل السبعينيات. وبشكل عام، يتعين على المرء أن يظل دائماً مفتوح العينين مع “شركائنا الأمريكيين” – كما يسميهم الرئيس فلاديمير بوتين – فهم بارعون جداً في السياسة السرية والعمليات السرية متعددة الخطوات وتحريض خصومهم الحقيقيين والمحتملين ضد بعضهم البعض. لكن يبدو أنه لا خبراء بمستوى كيسنجر في الأفق السياسي الأمريكي اليوم، رغم أن ذلك لا يعني أنهم غير متوفرين.

في الوقت نفسه، وفي محاولة لتحليل وتوقع سلوك الاستراتيجيين الأمريكيين، على المرء أن يضع في اعتباره دافعاً مهماً يؤثر دائماً بشكل خفي في اختيارهم لأولوياتهم، والواضح اليوم أن المنافسة الاقتصادية هي أحد الأسباب الرئيسية للصراع الأمريكي المستمر ضد الصين، فالدولار – وليس الديمقراطية والحرية – هو محرك السياسة الأمريكية. والغريب أنه مع كل هجمات واشنطن السياسية المختلفة على روسيا، والعقوبات الاقتصادية والقيود التي لاحظناها خلال العامين الماضيين، ازداد حجم التجارة الروسية الأمريكية، عام 2019، بنسبة 4.9%، بينما زادت التجارة الروسية مع الصين فقط بنسبة 2.5%. وفي النصف الأول من العام 2020، انخفض حجم التجارة بين روسيا والولايات المتحدة بنسبة 5.5%، بينما مع الصين بنسبة 5.7%، ومع كوريا الجنوبية التي لا تفرض أي عقوبات على روسيا، 27%.
اليوم، الجانب الأكثر اضطراباً في المثلث الصيني – الروسي – الأمريكي هو واشنطن، فالنظام السياسي الأمريكي يعاني من مرض خطير. وفي ظل هذه الظروف، يعبر علماء السياسة والخبراء الروس عن فكرة مفادها أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين يمثل فرصة لروسيا أكثر منه تهديداً. لكن هذا يمكن أن يمثل تهديداً حقيقياً لكل من روسيا والصين، حيث ينظر إلى كل من البيت الأبيض والكابيتول هيل على أنهما السبب الجذري لمشاكل الولايات المتحدة. ولكن عندما يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة يتم تهميش التناقضات الداخلية، ومن الخطأ بناء أبة أوهام على الخلافات الحالية داخل النخب السياسية الأمريكية. وبغض النظر عمن سيكون على رأس الإمبراطورية بعد نتائج الانتخابات المقبلة، فإن من السذاجة توقع تغيير في سياستها الخارجية. وسنستمر في سماع العديد من الكلمات غير السارة من مبنى الكابيتول والبيت الأبيض تجاه كل من الصين وروسيا.