مجلة البعث الأسبوعية

عبد الكريم الناعم: أحيانا أتساءل عن جدوى كل هذه الكتابات.. ومع ذلك لا أستطيع الإقلاع عنها!!

“البعث الأسبوعية” ــ ندى الحوراني

مع صدور مجموعته الشعرية الجديدة بعنوان “شيء عنها”، عن اتحاد الكتاب العرب، بلغت إصدارات الشاعر عبد الكريم الناعم، المولود 1935, والتي بدأت بديوانه الأول “زهرة النار” (1965)، ثلاثين كتاباً تضم الشعر والنقد والدراسة والمقالة، وهو إنتاج يمكن القول إنه غزير, مع أن صاحبه يؤكد أنه لم يكره نفسه على كتابة شيء، وأنه يستجيب للكتابة كلما توفر دافعها؛ ويضيف أنه في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، كان مقلاً في كتابة الشعر.

الناعم يجد نفسه في الشعر والنثر معاً، لكنه يشدد على أن وجود الشاعر في قصيدته يختلف – بدرجة أو أخرى – عن وجوده في الكتابة النثرية، وأنه في الشعر، أو في النثر الذي يحمل ملامح شعرية، يكون موجوداً بطريقة خاصة تعبر عنها فنية الكتابة. ولشاعرنا المنحاز للشعر الموزون بشكليه العمودي والتفعيلة رأي لافت في ما يسمى قصيدة النثر.. يقول: “أنا ليس من حقي مصادرة أي صيغة يختارها الكاتب ليعبر عن ذاته، وإن كان علق في الأذهان أنني ضد قصيدة النثر من خلال مناقشتي لتكوينها الفني، فأنا قلت إن في الوزن معنى إيقاعياً تفتقر إليه قصيدة النثر.. وإلا فهي موجودة كجنس أدبي”. ولا يتردد الشاعر في إعلان تقديره للتعبير الفني الراقي أياً كانت صيغته، ذلك أن الشكل عنده ليس هو المعيار، وكثير من الشعر الموزون لا يساوي الحبر الذي كتب به، كما يقول. ومن المفارقات التي يرويها، على سبيل الطرفة، أنه قدم لوزارة الثقافة مخطوطاً للنشر بعنوان “ليس شعراً”، وهو عبارة عن مجموعة تأملات وجدانية وحياتية وصوفية، لكن الجهة الناشرة اعتبرته عملاً شعرياً، ووضعت على غلاف الكتاب مفردة “شعر”!!

ويعتقد عبد الكريم الناعم، الذي له باع طويل في كتابة المقالات والزوايا الصحفية الفكرية والسياسية، أننا نتعرض لغزو عسكري وثقافي خطير, ما يجعل المثقف الحقيقي أمام مسؤولية مضاعفة، لأنه ليس ثمة خيار إلا مواجهة هذين الغزوين بكثير من التصميم وعدم اليأس.

هذه بعض من إجابات صاحب “تنويعات على وتر الجرح”, و”عنود”، و”في أقانيم الشعر”، و”كشوفات”, و”لأقمار الوقت”، و”أرحل هكذا”، و”لكعبة الجنوب”, و”مكابدات ابن زريق الحمصي”، وغيرها الكثير،

في هذا الحوار الذي يستكشف بعضاً من ملامح عالمه الابداعي:

 

لماذا تكتب الشعر؟ وأين تكمن ضرورة الفن عموماً؟

– الكتابة شكلٌ ٱخر إبداعي من أشكال الحياة، والكاتب المبدع بتقديري لا يتوقف إلا حين ينضب أو يعجز, وما دمت لم أنضب، ولم أعجز بعدُ عجزاً كاملاً، فسأظل أكتب. وفي تصوري لو أن هذا العالم كان خالياً من الفنون الإبداعية لكم كان سيبدو مقفراً وناقصاً.

 

لك صفحة على الفيسبوك.. هل يحقق لك هذا الأخير النشر السريع والتفاعل الواسع مع القارئ؟ وإلى أي حد ترضيك تعليقاته؟

– أنا منذ محوت أميتي باستعمال الكمبيوتر، لم أعد أكتب على الورق إلا رؤوس أقلام، وأباشر الكتابة والنقد إلكترونياً، عدا الشعر فإنني ما زلت أكتبه أولاً على الورق ثم أنسخه على الفيس. وأما بالنسبة للتعليقات، فالكتابة تحتاج لكاتب ولقارىء، وإلا فلمن نكتب؟! يهمني أن يكون لي قرّاء وخاصةً القارىء النوعي، ولا يهمني عدد التعليقات وإنما عمقها.

 

هل يزعجك ألا يفهمك القارىء.. ولا سيما أن لغة شعرك لا تخلو من صعوبة؟

– لا.. أبداً!! ما يزعجني ألا يفهمني القارىء النوعي الذي أكتب له، فأنا – مع احترامي للأعمال التي يمارسها الناس – لا أنتظر من بائعٍ جوال أن يطرب لقصيدة، كما أن علاقتي باللغة متضافرة مع قراءاتي الأدبية بعامة، وأنا سافرت بعيداً في كتب التراث وما زلت، وإذا كان من صعوبة بالنسبة للبعض فلا أرى ذلك عيباً في النص ما دام يؤدي الغرض البنائي والتعبيري والجمالي في القصيدة.

 

هل لك طقوس خاصة للكتابة؟ وهل قراءة الشعر تحرضك عليها؟

– لا طقوس لدي.. ولكنني حين يزحمني الشعر أحسُّ بحالةٍ وجدانية ذات شفافية يصعب وصفها، ولكنها تّحسّ فأستجيب لها.. ولا أّكره نفسي على كتابة الشعر. وربما يحدث شيء من التحريض حين يفتح مناخ النص فضاءات لرؤى ومشاعر قد لاتبدو في النص (النص المقروء)!!

 

كيف بدأت علاقتك مع الشعر؟ وهل للموهبة دور أساسي؟

– هناك مقولة لناقد شهير يقول عن الشعر وعن الموهبة إنه “من أجل أن تكون شاعراً يجب أن تولد شاعراً”.. وأنا بدأت تباشير كتاباتي في نهاية المرحلة الإعدادية، ثم نضجت عبر التجربة فيما بعد.

 

بمن تأثر الشاعر عبد الكريم الناعم من الأدباء والشعراء؟

– تأثرت بكل النصوص الجميلة التي قرأتها في الشعر، سواء أكانت قديمة أو حديثة. في البداية، قد تبدو ملامح تأثر ما، من هنا ومن هناك، ولكن طموح الشاعر أن يصل إلى صيغةٍ في المعالجة والتعبير تحمل بصمته.

 

يتغلغل حزنٌ وجودي في بعض قصائدك.. كيف تنظر إلى علاقة الحزن بالشعر؟

– هل هناك ما يلامس الوجدان ويحرّك المشاعر إذا لم تكن فيه لمعةٌ من الحزن الوجودي.. الحزن أراه جزءا حميمياً من لبّ الشعر.

 

هل يشغلك الموت.. مع أني لم أجد صدىً بارزاً لهذا الانشغال فيما قرأت من قصائدك؟!

– الموت يشغلني منذ بواكير حياتي، ولم أنم إلا نادراً دون أن يكون لهاجس الموت حضوره الخاص، وأعتقد أن هذا نابعٌ من إدراكنا العميق بأننا لابد لنا من أن نُدعى فنجيب.

 

أنت عاصرت أهم شعراء حمص.. ما الذي يجمع هؤلاء الشعراء برأيك؟

– ما يجمع الشعراء في حمص أنهم أجيالٌ متلاحقة.. سلسلة لا تنقطع، ويمكن أن نتتبع ذلك منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الٱن، ففي كل عشر سنوات تقريباً يكون ثمة جيلٌ شعري، وهذا قد لا يتوفر لكل المدن.

 

هل ثمة مشروع لطباعة أعمالك الشعرية الكاملةً؟

– لا.. لأنني لا أستطيع تحمّل تكاليف هكذا طباعة، ولو وُجدت جهةٌ تتبنى هذا الأمر فسأستجيب على تخوّف من أن ذلك يقتضي مني أن أعطيها نسخةً منسقةً على الأقل، وأنا لم تعد لديّ القدرة المناسبة لمزيدٍ من العمل وراء الطاولة.

 

أين يجد الشاعر ملاذه الآمن.. مع قلمه وبين كتبه وأوراقه؟ أم في المهرجانات وعلى المنابر؟

– الموقعان ضروريان للشاعر.. في خلوته يراجع الكثير، وفي كتابته دون تعمّد لا بد من تخيّل أن ثمة قارئاً يكتب له، وإلا فلمن يكتب؟ أما المنابر فلها خصوصية التفاعل مع الذين يجيئون لسماع الشعر، وهي مواجهة تحتاج لكثير من الحساسية وقراءة وجوه الناس، بحيث لا يملّون منه ولا يستثقلونه، والشاعر الذي لا يجيد هذه القراءة قد يضع نفسه في ورطة!!

 

في مقالاتك دفاعٌ حارٌّ عن ثوابت العروبة والوحدة وفلسطين والمقاومة.. هل ما زال للأمة العربية مستقبلٌ في ظل الانتكاسات القوية التي عرفها مشروعها القومي النهضوي، وخاصةّ بعد موجة التطبيع الحالية؟

– أنا أميّز، هنا، بين روح الأمة التي تعبّر عن نفسها بالحس الجماهيري الصادق والمغيّب، ولا أرى هؤلاء الحكام الراكضين خلف التطبيع ممثلين حتى لشعوبهم. الشعارات التي رفعناها في ستينيات القرن الماضي وما بعده – أعني الشعارات القومية التقدمية – ما تزال صالحة لأزمنةٍ طويلةٍ لو أُحسن تطبيقها.. الفشل القائم هو فشل الذين تصدوا لهذه المبادىء ذاتها.. مازلت أؤمن بهذا إيماناً عميقاً.

 

هل أستطيع القول إنك بعد هذه المسيرة الشعرية الطويلة والحافلة ما زلت تشعر بأنك مبتدىء وهاوٍ؟

– حين يتوهم الشاعر أنه اكتمل فهذا إعلان موته.. الشاعر لا يكتمل، ويظلّ يطمح للأفضل، وأقولها صادقاً إنني كثيراً ما أتلفتُ بعض الكتابات، وأحياناً أتساءل: ما جدوى كل هذه الكتابات؟ ومع ذلك لا أستطيع الإقلاع عنها!!

 

ورد اسم “عنود” في بعض قصائد ديوانك الجديد.. هل لهذا الاسم بُعد رمزي أم أنها امرأةٌ واقعية ملهمة؟

– المرأة في شعر الشاعر قد تكون امرأة تعيش قريباً منه أو بعيداً، وقد تكون من خلق الشاعر.. و”عنود” كانت في المجموعة المسماة باسمها، وفي القصائد الكثيرة التي مرّ ذكرها، تدرج بيننا، ولكنها في الشعر تتحول إلى أنثى شعرية تنبئ عن نفسها بمقدار حضورها الفني في النص.

 

في قصيدة “يقظة في المدار” تقول: “أشكو لأول الصبا أوائل السبعين”.. هل هو الحنين الموجع إلى عهد الشباب؟

– رغم اقتناعي أن مراحل حياتنا على تنوعها هي النمط الذي يقتضيه تكويننا الوجودي، وعلى ما للشباب من زهوٍ وحبور وألق، فإنني أجد أن الشيخوخة أوقفتني على ذروةٍ ما كان لي أن أرى ما أشرفت عليه لولاها.

 

تقول في إحدى قصائد ديوانك الجديد: “أغلق الباب على الأشواك والورد| ولا أمضي إلى تلك الحواري| أتداوى برق النسيان”.. هل هو النسيان باعتباره آلية نفسية دفاعية في مواجهة صدمات الماضي؟

– النسيان وظيفة حيوية من وظائف النفس، وهو نعمة لمن يتأملها، وإلا فليتصور أيٌّ منّا أن يظل ذاكراً فاجعةً أليمةً فلا يغادرها ولا تغادره.

 

في قصيدة “ثمر الٱن”، تقول:

“قلت: يا ليت لو أني منذ ألفٍ قد تعرفت إليك/ ابتسم الزنبق في أقصى بياض الروح/ قالت: ثمر الآن أحلى”.. ألا يبدو الحنين إلى الماضي في هذا المقطع أقوى من إغراء الحاضر؟

– ومن قال إن الإنسان بعامة لا يحنّ إلى اللحظات الجميلة..

 

في التوق بعامة، ثمة حنينٌ غامضٌ حتى وإن لم يبد في النص.. وفي قصيدتك “شيء عنها” صوفية حسية، إذا جاز التعبير.. ما رأيك؟

– الصوفية ملمحٌ من ملامح نصوصي الشعرية، وقد تأخذ شكل ذوبان الروح والحنين إلى الأعالي، وقد يتجلّى فيما أسميته “صوفية حسية”.