مجلة البعث الأسبوعية

على وقع إعادة تأهيل سرير الفرات في دير الزور.. مشاريع قديمة لا تزال تلقي بظلال فشلها على الواقع الراهن

“البعث الأسبوعية” ــ وائل حميدي

شهدت مدينة دير الزور، قبيل عام ٢٠١١، انتعاشاً واضحاً على مستوى المشاريع السياحية التي دخلت متأخرة إلى المدينة، لتتصاعد وتيرتها وتتزايد أعدادها على ضفتي نهر الفرات، خلال السنوات الأخيرة التي سبقت الحرب الحاقدة على سورية. وإذا كانت ذاكرة أبناء المحافظة معلقة بجسر مدينتهم المُعلَّق، فإن هذه الذاكرة شهدت صُوراً جديدة لمعالم سياحية ذات طابع حديث لم يكن ليعرفه أبناؤها لولا وجود نهر الفرات الذي شكَّل عامل جذب حقيقي باتجاه إشادة منشآت أخذت الشكل الحضاري والمتطور، لترسم جميعها لوحة جميلة وجديدة في المدينة. ومع اندلاع حرب الحقد، أُصيبت المشاريع السياحية الجديدة بالشلل التام، حالها حال باقي المشاريع الصناعية والاستثمارية وغيرها.

 

جانبان

عملياً، يأخذ الحديث عن نهر الفرات في مدينة دير الزور جانبين مهمين: الأول على مستوى الاهتمام الحكومي بالنهر، وإلى أي درجة نجح باستثمار هذه الهبة الإلهية، وهل تمكَّنت المشاريع الحكومية على ضفتي النهر من تقوية عامل الجذب السياحي في المحافظة، والثاني على المستوى الخاص ممن نفَّذوا أفكارهم ومشاريعهم مستفيدين من اختراق أطول أنهار غرب آسيا لمدينتهم.

يمتد نهر الفرات على طول مدينة دير الزور، وبمسافة قدرها أحد عشر كيلو متراً، بدءاً من حي البغيلية غرب المدينة، وانتهاءً بقرية الجفرة شرقاً، وهي القرية الحدودية للمدينة.

ومع دخول نهر الفرات المدينة من الجهة الغربية، ينقسم النهر إلى قسمين، أو ما يُعرف بالفرعين: الصغير والكبير، ليكون هذا الانقسام هبةً جغرافيةً جعلت من المدينة غافيةً على شاطئين، وهذه لوحدها شكَّلت عامل جذب سياحي، وتمكَّنت سابقاً من استقطاب مشاريع حقيقية.

ومع كل ما تقدَّم، تبقى الحقيقة الثابتة أن الجُهد الحكومي لاستغلال انشطار النهر كان خجولاً جداً، بل وبلغ مستوى تنفيذ مشاريع “فاشلة” انعكست سلباً على الخصائص البيئية للنهر، ومنها المشروع الأكثر فشلاً، والذي نفّذته الحكومة، عام ١٩٨١، والخاص بتبليط سرير النهر خلال مروره في المدينة، ولمسافة تبدأ من أمام مبنى قيادة الشرطة غرباً، انتهاءً بجسر كنامات شرقاً، فكان لهذا المشروع أسوأ النتائج البيئية والسياحية وحتى الجوفية.

 

عادلت تكلفة تلافي الأخطاء!!

قد يبدو، للوهلة الأولى، أن الحديث عن مشروع تبليط نهر الفرات، والتكلفة التي عادلت تكلفة أخطائه – وتم تنفيذه عام ١٩٨١ كما أسلفنا – غير مبررة، بفعل عامل الزمن الذي انقضى بين يومنا هذا وبين تاريخ التنفيذ، ولكن إذا ماعلمنا أن الآثار السلبية لهذا المشروع تنسحب إلى يومنا هذا، فإن الخوض ببعض تفاصيله سيكون مقدمة لواقع المساحة الجغرافية لهذا المشروع اليوم.

وإذا كانت الغاية من مشروع تبليط النهر هي زيادة تدفق مجراه، ومنح إمكانية الاستفادة من إقامة مشاريع على ضفتي البلاط النهري، فإن فشل التنفيذ كبَّد الدولة ما يقارب ٩٠ مليون ليرة آنذاك، ناهيك عن الخسائر المالية التي تم رصدها لتلافي منعكساته، والتي كادت تقترب من مبلغ التكلفة الأساسي، حيث نتجَ عن تبليط سرير النهر، فيما بعد، أن مياه النهر ضمن مساحة المشروع لم تعد صالحة للبشر والحيوانات، بل وحتى الزراعة، وهذا ما أثر سلباً على الناحية المعيشية والاقتصادية لمالكي الأراضي الزراعية التي كانت تستفيد من مياه النهر ضمن مسافة التبليط، وترافق هذا مع تلوّث كبير للمياه بسبب عمليات الصرف الصحي التي تصبُّ في النهر، ليكون لهذا الصرف الملوَّث أسرع الأثر في تملُّح مياه النهر، وما نتج عن هذا من انتشار كريه للروائح ضمن منطقة كان مأمولاً منها أن تكون عامل جذب للاستثمار النهري على ضفتي البلاط، ولتكون النتيجة أن هذا التبليط بات عامل طردٍ للاستثمارات.. وكل هذا بسبب ما تم الكشف عنه لاحقاً من خطأ في ميول التبليط، ليخسر المشروع أهم أهدافه الخاصة بزيادة تدفق جريانه وتنظيم هذا الجريان، فكان هذا الخطأ في ميلان التبليط السبب الأكبر في ركود النهر، وانتشار الطحالب فيه، واستقرار تصريف مخلفات الصرف الصحي والمشافي، نظراً لركود المياه في المكان؛ مع ما تسبَّب به المشروع نفسه من إزالة مئات الأشجار المُعمِّرة على ضفتي النهر، ومن المعروف أن هذه الأشجار كانت تساعد على تثبيت التربة وحماية النهر من الانجرافات.

 

على محك تلافي التبعات

كل هذه التبعات السلبية لمشروع تبليط النهر وضعت الحكومة، ما بعد التنفيذ، أمام البحث عن حلول لتلافي استمرار التلوث ومنح مياه النهر مواصفاتها التكوينية الأولى، والعمل على إعادة الثروة السمكية في المكان، مع ما تم الكشف لاحقاً، والخاص باصطدام العروق المائية المتأتية من سيول الأمطار بالجدار الإسمنتي الذي منع نفاذ تلك المياه إلى سرير النهر، وعودتها إلى النقاط المنخفضة ضمن الأبنية المحيطة، فكانت النتيجة طوفان الأقبية بالمياه، والتي مازالت تعاني من هذا الطوفان لغاية يومنا هذا.

ومع بدء الحرب الحاقدة، توقفت كافة الأعمال التي قُرر لها تلافي أخطاء المشروع الأسوأ، ليعود التفكير الحكومي من جديد، عام ٢٠٢٠، وبعد تحرير المحافظة من بطش الإرهاب، إلى الاهتمام بإعادة النبض في مسافة النهر، الممتدة لـ ١١ كم في المدينة، فهل نجحت الحكومة في إعادة ألق النهر إلى المدينة، أم أن خطواتها ما تزال تتخبَّط في المكان دون نتيجة حقيقية، نظراً للظروف الكثيرة المحيطة بهذا المفصل؟

يقول واقع نهر الفرات ضمن مساحة مروره في المدينة أن الأعشاب وأعواد الزَل غزت ضفتيه تماماً، وأن أنقاض الأبنية المتاخمة له، والتي تعرّضت للتخريب خلال سنوات الحرب، جثّمت على ضفة النهر، في أجزاء واسعةٍ منه، فكانت أولى الأعمال المهتمة بنهر الفرات إزالة تلك الأنقاض، وتعزيل السواتر الترابية المنتشرة على ضفتيه، والعمل لإنعاش ما أمكن على جانبي النهر، ضمن الإمكانات المتاحة وما تم رصده من أموال لهذا الغرض.

 

تذكير

وهنا، لابد من التذكير بأهم المشاريع التي تم افتتاحها على نهر الفرات، وهو كورنيش السيد الرئيس الذي تمَّت إشادته على فرع النهر الكبير، ويمتد من فندق فرات الشام غرباً، إلى مشفى الفرات شرقاً، وعلى مسافة تصل إلى ٤ كم، حيث باشرت ورشات الشركة العامة للمشاريع المائية، مؤخراً، بتنفيذ مشروع إعادة تأهيل الكورنيش المذكور، وذلك بموجب عقد مبرم مع محافظة دير الزور، وبتمويل من صندوق دعم المحافظة، وبقيمة عقدية بلغت 89 مليون ليرة سورية ولمدة ستين يوماً. ويهدف هذا المشروع إلى إنعاش كورنيش السيد الرئيس، وقد تضمّنت أعماله، وفق تصريح سابق لمدير فرع الشركة العامة للمشاريع المائية في المنطقة الشرقية، المهندس غسان عباس، فتح الطرقات، وإزالة السواتر الترابية، وترحيل الأنقاض، وإصلاح القميص الإسفلتي، وإعادة تأهيل الأرصفة الممتدة من مدخل الكورنيش شرقاً، ولغاية مشفى القلب المفتوح غرباً، وبطول ثلاثة كيلو مترات.

وإذا كان مشروع إعادة تأهيل كورنيش السيد الرئيس قد بدأ على فرع النهر الكبير، فإن مشاريع بسيطة جداً بدأت الحكومة بتنفيذها على فرع النهر الصغير، ومنها الأعمال الجارية الآن، بدءاً من المشفى الوطني القديم مروراً بمبنى المحافظة القديم وانتهاءً بما يعرف بالجسر الأعور، ونقول “قديماً” لأن كلاً من بناء المشفى الوطني وبناء المحافظة المُطلَّين على فرع النهر الصغير باتا خارج الخدمة، منذ عام ٢٠١٣، بعدما طالتهما يد الإرهاب والتخريب والسرقة.

 

لم ترتق إلى المستوى المطلوب

والحقيقة هي أن كِلا المشروعين الحكوميين على سرير النهر بفرعيه لا يرتقيان إلى المستوى المأمول، فإعادة تأهيل الكورنيش تسير الأعمال فيها بوتيرة بطيئة، رغم ما لهذا الكورنيش من أهمية كبيرة كونه المتنفس الحقيقي لأبناء المدينة المحفور في ذاكرتهم ما شهده المكان من نشاطات سياحية وتسويقية مختلفة ومتكررة ومتجددة، والحديث ذاته ينطبق على ما يتم إنجازه عند ضفة النهر بفرعه الصغير، حيث أن هذه الأعمال لا تبدو ذات أهمية عند المواطن الذي كان – وما يزال – يتمنى أن يكون للنهر، بفرعيه، ما يستحقه من اهتمام يرتقي إلى معنى وجود نهر عظيم يخترق الأحياء السكنية.

يقول واقع المشاريع التأهيلية الجارية الآن إن سرير النهر مُشبع بالأعشاب وأعواد الزل والحجارة والركام، حتى أن بعض أجزائه باتت مكبّاً للأنقاض لولا تدخل الحكومة لردع المخالفين. ومع ذلك، فإن حاجة النهر اليوم باتت ماسة لتنظيف جنباته، مما شوّه رؤيته وألقه، وعمليات التنظيف هذه لم تبدأ بعد، وفيما لو بدأت فإن تنظيف سرير النهر ذاته بات ضرورة، إذ من غير المعقول أن تكون مشاهدة مياه النهر صعبة في بعض المفاصل بسبب تراكم الأعشاب والطحالب ومخلَّفات الأبنية.

على الجانب الاستثماري الخاص، ظهر في الآونة الأخيرة بعض المستثمرين من القطاع الخاص، وهؤلاء اختاروا أماكن متفرقة من النهر ليقوموا بإنشاء مشاريعهم عليها، وإذا كان هذا الاستثمار قد نجح في المكان فقط، فإن مقوٍّمات الجذب إليها ما تزال ضعيفة، كأن تكون بعيدة المسافة عن التجمعات السكانية، وأن يكون الطريق إليها موحشاً مظلماً في الليل، وأن تكون الأسعار فيها كاوية نظراً لسعي المستثمرين الحثيث لتعويض أموالهم التي ضخُّوها في إعادة التأهيل حول منشآتهم (وهو دور الحكومة وليس الخاص)، ومن سلبيات تلك المنشآت أيضاً أن بعضها يحتاج إلى قطع النهر للوصول إليه، وهنا تكون الجسور – إن صحَّت التسمية – المنفذ الوحيد باتجاه الضفة المقابلة، مع التذكير هنا بتدمير كافة الجسور التي كانت مُشادة على النهر خلال الحرب الحاقدة على سورية، بل إن التدمير الممنهج طالَ جسور المشاة التي شيَّدتها الحكومة بين ضفتي النهر الصغير قبيل اندلاع الحرب، وهذا التدمير شكَّل عائقاً أمام إعادة ألق المشاريع النهرية إلى سابق عهدها.

 

مشاريع خجولة

من كل ما تقدم، نجد أن كافة الأعمال الخاصة بإعادة تأهيل محيط شاطئ النهر هي مشاريع خجولة، وتسير بخطى بطيئة. ويتزامن هذا مع أهمية تنظيف السرير من كل ما يشوبه، ولعل الحل هنا يكون باللجوء إلى القطاع الخاص عبر منح المزيد من التراخيص لمشاريع سياحية جديدة، مع ما سيكون لهذه المشاريع من أثر إيجابي في إعادة المنظر العام إلى ما يتناسب ووجود نهر كبير في المنطقة، مع أهمية ما تقدمه الحكومة من خدمات على مستوى البنى والخدمات الرئيسية، وأهمها أعمال الصرف الصحي، وإيصال المياه إلى ما أمكن الوصول إليه، وتغذية كامل السرير بالتيار الكهربائي، ليخطو النهر وقتها أولى الخطوات باتجاه استعادة ألقه.