تحقيقاتصحيفة البعث

القمح السوري.. آليات الدعم متهالكة وزيادة الإنتاج أولوية لمواجهة الحرب الاقتصادية!

على الرغم من أن زراعة القمح في بلدنا من الزراعات الإستراتيجية، وترتبط بها سياسات اقتصادية واجتماعية تنعكس بشكل مباشر على المجتمع السوري بأكمله، إلا أن الخطط والخطوات التي تمّت لدعم هذا المحصول الإستراتيجي لم تحقّق أهدافها، وخاصة في هذه المرحلة التي تتوالى فيها فصول جديدة من أشكال الحرب الاقتصادية على السوريين، بهدف إخراج شريحة واسعة من عتبة الشرائح الآمنة اقتصادياً إلى الفئات المحتاجة وغير الآمنة اقتصادياً، وذلك من خلال الضغط على سلعة أساسية وهي مادة الخبز.
اقتصاديات القمح المرتبطة بشكل أساسي بالإنتاج والتخزين والنقل والتسويق، إضافة للتجارة الخارجية (المستوردات والصادرات) والدعم الحكومي والعلاقة برغيف الخبز ونمط الاستهلاك الغذائي لمادة الخبز لدى السوريين، ستكون محاور حديثنا مع الباحث الاقتصادي شامل بدران الذي أجرى دراسة حول محصول القمح وقدّم اقتراحات لتعزيز الإنتاج وزيادة الإنتاجية.

إحصائيات زراعية
في بداية حديثه، عاد بدران إلى أعوام سابقة ليوضح أن المساحة المزروعة من القمح في الموسم الزراعي لعام 2010 – 2011 بلغت ما يقارب 1.5 ملايين هكتار موزعة بنسبة 49% سقي و51% بعل، وكانت كميات الإنتاج 3.8 ملايين طن 85% سقي و15% بعل. لافتاً إلى أنه خلال فترة الحرب تراجعت كميات الإنتاج بشكل ملحوظ في بعض السنوات وصلت إلى ثلث كمية الإنتاج فقط، وفي الموسم الزراعي لعام 2019 -2020 كانت المساحة المزروعة 1.3 ملايين هكتار موزعة 43% سقي و57% بعل، وتم إنتاج 2.8 ملايين طن 64% سقي و36% من البعل.
وأشار إلى أن أسباب التراجع تعود إلى عوامل متعددة منها تراجع المساحات المزروعة الإجمالية بنسبة 12%، أما المساحات المزروعة السقي، فقد بلغت في التراجع النسبة الأكبر وهي 24%، وذلك مقارنة بين الموسم الزراعي لعام 2019 – 2020 عن الموسم الزراعي 2010 – 2011، وتشكل نسبة المساحات المزروعة السقي، في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وحلب، 80% من إجمالي المساحة المزروعة سقي الإجمالية، ونسبة الإنتاج في تلك المحافظات 79% من إجمالي الإنتاج السقي. أما البعل فالمساحة المزروعة في الحسكة وحلب، فتشكل 71% وكمية الإنتاج 51% من إجمالي الإنتاج البعل. أي أن التراجع في المساحات المزروعة في تلك المحافظات ولاسيما مساحات السقي أثر على كميات الإنتاج الإجمالية، حيث تراجعت كمية الإنتاج السقي إلى نسبة 64% فقط، وذلك بسبب انخفاض كميات الري للمحصول وعدم تواترها وفق البرنامج الزمني للري وعدد مرات الري مرتبط بتوفر المحروقات وبشكل أساسي مادة المازوت فنتيجة ارتفاع سعر لتر المازوت وبقفزات كبيرة فإن التأثير السلبي على المحصول بدا واضحاً.
ومن العوامل أيضاً برأي بدران عملية التسميد التي تعتبر من العمليات الأساسية والمؤثرة على إنتاج القمح فهي تشكل ما نسبته 18% للسقي من إجمالي التكاليف، وهذا ما يمنع الفلاح من التسميد بشكل سليم وخاصة خلال سنوات الحرب بسبب ارتفاع أسعار السماد، إضافة لعدم توفرها في السوق المحلية، ما أدى إلى انخفاض كميات الإنتاج.
وهناك أيضاً كميات البذار ونوعيته فقبل الحرب على سورية كانت كميات البذار الرئيسية ترد للفلاحين من مؤسسات حكومية وبأسعار مدعومة أما خلال فترة الحرب فقد اعتمد الفلاحون على مصدري مخزون السنوات السابقة لديهم أو الشراء من مصادر أخرى غير حكومية ومن كلا المصدرين لا تتم الاستفادة من البذور المحسنة والمعقمة وفق الشروط الأساسية لرفع إنتاجية المحصول.

التسويق والنقل والتخزين
وفي مجال التسويق والتخزين، أكد بدران أن تسويق محصول القمح يتم لمؤسستي الحبوب وإكثار البذار بشكل أساسي، كما يتم الاحتفاظ بجزء من المحصول من قبل الفلاحين أنفسهم، ولاسيما خلال فترة الحرب. وبلغ حجم الإنتاج المسوق في الموسم الزراعي 2010 – 2011 ما يقارب 2.8 ملايين طن أي بنسبة 73% من حجم الإنتاج الإجمالي، وحصلت مؤسسة الحبوب على نسبة 89% من إجمالي المحصول المسوق حينها. أما في الموسم الزراعي 2019 – 2020 فقد بلغت كمية الإنتاج المسوق أقل من 600 ألف طن أي بنسبة أقل من 20% من إجمالي الإنتاج، ولفت إلى أنه خلال فترة الحرب ظهرت إشكالية تهريب المحصول إلى الدول المجاورة، ما أثر بشكل سلبي على المخزون.

الدعم الحكومي
وفيما يخص الدعم الحكومي، أشار إلى أن الجهات الحكومية تضع خطة سنوية لزراعة محصول القمح وفقاً لمساحات محددة وموزعة على المحافظات، وبناءً على تلك الخطة تقوم بتسليم كميات البذار للفلاحين وبأسعار مدعومة، كما تقوم بتقديم القروض المباشرة للفلاحين عن طريق المصرف الزراعي التعاوني، وقد بلغ حجم الإقراض 47 مليار ل. س في عام 2010 ووصل إلى 94 مليار ل. س في عام 2019. كما يتابع الدعم الحكومي لمرحلة الري والتسميد فتقوم بتوزيع الأسمدة بعد تأمينها للفلاحين أيضاً بأسعار مدعومة بشكل مباشر، وذكرنا سابقاً بشيء من التفصيل كيف تمت العملية خلال فترة الأزمة. أما الري فكان الدعم يتم عن طريق غير مباشر وهو بيع المحروقات بأسعار مدعومة ولا سيما مادة المازوت، وقد بدأت السياسات الحكومية برفع أسعار المحروقات وبنسب متفاوتة ومرتفعة، وذلك خلال فترات قصيرة إلى أن وصل إلى 185 ل. س للتر الواحد. وقد كان لهذه السياسة التأثير السلبي على زراعة المحصول فمن المعلوم بأن رفع أسعار مستلزمات الإنتاج وعدم توفرها في القطاع الزراعي يؤثر بشكل سلبي على كميات الإنتاج وعلى استمرار الفلاحين أحياناً بزراعة المحصول نفسه الذي تم رفع أسعار شرائه، حيث كان لكل كغ واحد من 20.5 ل. س للقمح للقاسي و20 ل.س للقمح الطري في الموسم الزراعي 2010 – 2011، وبالتدريج وصل في الموسم الأخير سعر الشراء 400 ل. س للقمح القاسي والطري. وقد كان لهذه السياسية التسويقية المردود الإيجابي من ناحية تعويض جزء من تكاليف الإنتاج للفلاحين وتشجيع على التسليم من جهة أخرى.
بالمحصلة، وجد بدران أن سياسات الدعم الحكومي لمحصول القمح تتأثر بتعدد الجهات المقدمة للدعم من جانب وتعديلها في فترات قصيرة من جانب آخر، ما لا يحقق النتائج المرجوة منها إضافة لصعوبة حصر مقدار وحجم الدعم.

القمح ورغيف الخبز
ويشير بدران إلى أن حاجة الفرد من الخبز وفقاً لنمط الغذاء في سورية تقدر بنحو 275 غراماً يومياً، أي ما يقارب 100 كيلو غرام سنوياً، وباعتبار أن كل 100 كيلو غرام طحين يعادل 120 كيلو غرام خبز، أي أن احتياجات الفرد سنوياً 120 كيلو غراماً من الخبز. ووفقاً لتقديرات عدد السكان لعام 2019 والبالغ عددهم 22.146 مليون نسمة، فإن إجمالي حاجتهم السنوية من القمح تبلغ 2.3 ملايين طن تقريباً. وتعتبر مادة الخبز مادة أساسية في الاستهلاك.

وبالعودة للكمية المستلمة سنوياً والتي بلغت في أفضل السنوات ما يقارب 600 ألف طن خلال سنوات الحرب، فإن حجم الفجوة بين المطلوب والمتوفر تبلغ 1.7 ملايين طن يتم توفيرها من خلال الاستيراد. وهنا تنشأ مشكلة الاستيراد، ما يتطلب ذلك استنزافاً للقطع الأجنبي وبذلك يخلق ضغوطاً إضافية على الحكومة السورية.

آلية المواجهة
لم يعد خافياً على أحد حجم الضغوطات الخارجية التي يتعرض لها الشعب السوري، والتي وصلت لمرحلة الحرب الاقتصادية المعلنة، من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات تعيق حتى القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية الغذاء والوقود والمستلزمات الدوائية، بالرغم من الادعاءات الخارجية بأن العقوبات الاقتصادية لا تشمل تأمين المواد الغذائية والطبية، وهنا يؤكد بدران أنه مع كل تلك الضغوط والحصار والعقوبات إلا أن إمكانية المواجهة ممكنة بشرط وضع إستراتيجية واضحة ملزمة لكافة المشاركين بها، وتحمل كل جهة مسؤوليتها لتحقيق النجاح بالخروج من الأزمة، ويشير إلى أن كميات الإنتاج سنوياً بما يقارب 175 ألف طن في حال بقيت السياسات الزراعية المتعلقة بالقمح السقي ذاتها، وذلك بسبب انخفاض المساحات المزروعة وارتفاع تكلفة الري وعدم القدرة على التسميد.. بينما تبدأ المعالجة بإيجاد مساحات جديدة لزراعة محصول القمح بالري وتأمين الوقود والسماد بشكل مباشر فتكلفة توفير هذه المستلزمات أقل من تكلفة استيراد المحصول الذي يتطلب استنزاف القطع الأجنبي، ما سيؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية على الليرة السورية.

حلول ممكنة
وبين الباحث بدران أن المشكلة اللاحقة لانخفاض الإنتاج هي عدم تسليم كميات كبيرة من المحصول للمؤسسات الحكومية، والمشكلة مركبة بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية والحل الاقتصادي لتلك المشكلة هي رفع أسعار الشراء من الفلاحين لأسعار مغرية جداً وأعلى من السعر العالمي للشراء، بحيث يتم استلام كامل المحصول المنتج وعندها يتم سد الحاجة المحلية من القمح وعدم اللجوء للاستيراد. ولتلك السياسة مكاسب اقتصادية كبيرة لأنه في اقتصاديات الحرب تتغير كل قواعد اللعبة، حيث يتم الشراء بالعملة السورية وتلك العوائد تعود لأسر الفلاحين السوريين التي تتسم بمعظم الحالات بانخفاض دخولها، ويعزز حركة ونشاط الدورة الاقتصادية، إضافة لتوفير القطع الأجنبي واستخدامه في استيراد احتياجات أخرى يحتاجها الاقتصاد، ويترافق ذلك مع اعتماد آليات غير نمطية للدعم الحكومي لمحصول القمح، والتزام كافة الجهات المعنية بتأمين الدعم (وزارة الزراعة، اتحاد الفلاحين، وزارة المالية “المصارف”، وزارة النفط)، بوصول الدعم لمستحقيه (الفلاحين) وإجراء التنسيق الكامل لضمان رفع كميات الإنتاج من القمح وبأقل التكاليف، وتقليل دور القنوات غير الرسمية والحلقات الوسيطة غير الضرورية ومحاسبتها إن لزم الأمر، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية متطورة تربط بين الحائزين الزراعيين والمساحة المزروعة وربط تتبع تنفيذ الخطة الزراعية وفقاً لبيانات تلك القاعدة، كما يتم ربط المحفزات والدعم بمدى الإنجاز للفلاحين على الأرض، وأضاف: لابد من استثمار نظم المعلومات الجغرافية بمتابعة وتدقيق قاعدة البيانات الرقمية بالإضافة للطرق الأخرى لتتبع التنفيذ، وذلك بالتنسيق مع مؤسسات محايدة عن قطاع الزراعة كهيئة الاستشعار عن بعد والاعتماد على البذور ذات الإنتاجية العالية وتوفيرها من خلال دراسات وأبحاث مختصة، ولاسيما في ضوء التطور العلمي الحاصل.

بشير فرزان