الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

البؤساء..!

حسن حميد

دائماً، تظلُّ النفس البشرية صاحبة نزوع نحو الكمال، فهي تهفو إليه قتلاً للفضول والأسئلة الشيطانية في آن. لهذا فإن الكتّــاب الذين قرؤوا الآداب العالمية مترجمة إلى اللغة العربية، يشعرون بحسرة كبيرة، وغصة موجعة، لأنهم قرؤوها ناقصة، ولم يعوا ذلك إلا بعد فوات الأوان، فقد تلاعب المترجم بهم، فحذف واصطفى واختزل ما أملته عليه ذائقته الأدبية، فشعر مرة أن هذه الرواية طويلة، فاختصر، وشعر مرة أخرى أن التفاصيل غير مهمة فحذفها أو زلها أو تركها إلى طبعات جديدة كُتب على أغلفتها إنها طبعة جديدة أمينة محررة ومزيدة، ومثلما تلاعب المترجم بالقارئ، تلاعبت دور النشر بالكتب المترجمة أيضاً، فاختصرتها وعصرتها من أجل توفير الأكلاف، ولم يكن من تبرير لهذه العملية غير الأخلاقية سوى قولة: ومن يعرف النص كاملاً!

لهذا فإن قراء العقود الزمنية الفارطة، وهي لا تقل عن خمسة عقود أو أزيد كانوا ضحايا الكتب المترجمة الناقصة (أنا لا أستطيع الجزم أن كل ما تُرجم في تلك الفترة كان ناقصاً)، وبذلك كانت قراءاتهم ناقصة، وغير تامة، أو قل هي قراءات مغدورة، وقد صدق من قال إن الترجمة خيانة “والأسباب كثيرة”.

أمدّ هذا السطر المشبع عتباً، لأقول إنني فرحت الفرح كله لأنني قضيت أياماً ماتعة مع رواية “البؤساء”، للكاتب الفرنسي فيكتور هيغو (1802 ـ 1885) المترجمة إلى اللغة العربية كاملة على يد مترجم حاذق نبيه عاشق للغة هو زياد العودة، ولكم لمت نفسي على قراءاتي المتعددة لطبعات متعددة سابقة وناقصة لهذه الرواية، وقد تعدد على ترجمتها مترجمون كثرة، فاللغة الصافية، هنا في هذه الترجمة، تجعلني أطلق آهات الإعجاب، الإعجاب بهذه الترجمة ونقاوتها، والإعجاب باكتمالها وتعدد صورها وقصصها وخبرياتها، وتعدد التقنيات الفنية التي لجأ إليها فيكتور هيغو، وهو يتلاعب في الوصف والتصوير والسرد والدخول إلى أعماق الشخصيات من أجل تظهير أعماق المجتمع الذي نخلته العادات والتقاليد الزائفة، مثلما نخلته المفاسد، وسطوة المال التي قسمت الناس إلى فرقتين محتشدتين بالتناقضات الرهيبة “من يمتلكون، ومن لا يمتلكون”، وبين الفرقتين نهضت المآسي، والأحزان مثل جدران عالية لا سيد يعلوها سوى المواجع والتألم والشكوى من جهة، وسوى المال والرفاهية من جهة أخرى!

كنتُ، وأنا أقرأ “البؤساء” الكاملة، أشعر بفداحة ظلم الترجمة وتفريطها بالأمانة العلمية والأخلاقية “أيّاً كانت الأسباب”، إذْ ليست “البؤساء” هي رواية “جان فالجان” سارق رغيف الخبز الذي قضى حوالي تسعة عشر عاماً من عمره في السجن مع الأعمال الشاقة، خمس سنوات لأنه سرق، وباقي السنوات لأنه حاول الهروب من سجنه مرات عدة، ومن بعد خروجه إلى المجتمع بتعريف هوية لونه “أصفر” يدلل على أنه رجل سوابق وخطير، ولا بد من الحذر منه، لأن الرواية هي اجتماع لبؤساء ذلك العصر ومشكلاته، ولأنها رواية مكتوبة بأنفاس الأدب النبيل، فقد أثّرت في أهل السلطة الفرنسية، فكانت التغييرات في القوانين، والعادات، والتقاليد، بل كانت التغييرات جوهرية في نظرة أهل المال وأصحابه تجاه من أبعدتهم الظروف عن المال وحيازته.

هنا، وعبر هذه القراءة لـ “بؤساء” فيكتور هيغو الكاملة يشعر المرء بأمور ثلاثة: أولها المقدرة المعجزة لدى هيغو وما يمتلكه من تلوينات في التقنيات، وأساليب الذم، والسخرية، والتجاهل، والنقد، والكشف، وما يتمتع به من أسلوب شارق وضّاء، وثانيها أهمية هذه الرواية التي أعدّها المثال الأوفى لكتابة رواية قادرة على التغيير والمغايرة، وحضور جماليات ثنائية المعنى والمبنى الكثيرة جداً، وثالثها هذا الحذق المكين الذي أبداه المترجم زياد العودة في نقل هذه الرواية الكبيرة إلى لغتنا العربية، فأبقاها من صفحتها الأولى إلى صفحتها الأخيرة ملأى بالسحر الحلال!

Hasanhamid55@ yahoo.com