الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شينُ الشغف

د. نضال الصالح

وأذكرُ: كأنّني لم أكنْ. كنتُ صلصالاً مِن حمأ مسنون. مِن سلالة من طين، فنفختْ فيّ مِن روحها، فصرتُ في قرارٍ مكينٍ. وأذكرُ: كانت تطلقُني من أغلال الزمان والمكان، وتمضي بي إلى ملكوتٍ يبدعني، فأستعيدُ الإنسانَ الذي ضيّعتُ، أو ضيّعني في مدينة كانت طوال حياتها هي الحياة، ثمّ صارت شاهدةً على الموت وشهيدته. مدينة كانت الضوءَ، ثمّ ازدحمت بعبَدة للظلام، جاؤوا إليها من جهات الأرض كلّها جراداً وذئاباً وضباعاً مجنونةً بالدمّ، والموت، والخراب، واليباب.

وأذكرُ كنتُ أقولُ: “قبلَ ما يزيد على أربعة عقود كنتُ فتى لم يغادر اليفاعةَ، دعتني، فطرتُ إليها عاشقاً تيّمهُ الياسمينُ المختالُ بنفسه في بيوتٍ يسبّحُ الحُسنُ باسمها، وأغوته الأبواب السبعةُ، أو الثمانيةُ، أو العشرةُ، بالصلاة في محراب الحكايات، فاعتكفتُ في أكمام أسرارها، زاهداً في النعميات سوى نار المعرفة. النار القدّوس وهي تتباركُ بالباذخاتِ من الحروف: دالٌ. ميمٌ، شينٌ، قاف”.

وأذكرُ كنتُ أعدّدُ: “باب الجابية، وباب السلام، وباب الصغير، وباب توما، وباب شرقي، وباب كيسان، و..”، وأذكرُ رأيتُ ابنَ عساكرَ، وابنَ منظور، والخطيبَ، والبيهقيّ، يقطفون من الياسمين ما شاءَ لهمُ الياسمينُ مِنَ الحكايات عن الأميرة التي باركتها السماءُ، ونادتها بالقول: يا شامُ، يا شامُ، يدي عليكِ يا شامُ، أنتِ صفوتي من بلادي”. وأذكرُ كانَ الجليلُ يشاركُ الملائكة هديلها في الأعالي، ثمّ يمسحُ على رأسي، ويومئ بحركة من عينيه أن أكتبَ، فكتبتُ:

“وفي روايةِ لمؤرّخ دمشقيّ قديم أنّ باني دمشقَ هو دامشقيوس بن كنعانَ. وفي رواية أخرى أنّ بانيها هو جيرونُ بنُ عادَ بنِ إرمَ، وكان بناؤها على أعمدة من رخام، وقيلَ وجِدَ فيها مِن آثار بنائه أربعمئةُ ألفٍ وأربعونَ ألف عمود من الرخام، ولعلّها هي المقصودة بقوله إرمَ ذات العماد”.

الجليلُ يُملي، وأنا أكتبُ ذاهلاً في العطر الذي كانَ يقطرُ من الغيمة الرؤوم، فيعيدني إلى حلب التي وسّدتني أوّل المعنى، وكنتُ هززتُ جذعَ الحياة، فتساقطَ الضوء فيّ، وعليَّ، نداءً لا يشبهه نداءٌ: “عليكَ بالشام، فإنّه خيرةُ الله من أرضه، يجتبي إليها خيرتَه من عباده”، فامتثلتُ، ثمّ رتّلتُ: “إرم ذات العماد، التي لم يُخلَق مثلها في البلاد”، وكأنّي سمعتُ الجليلَ يقولُ، أو الغيمة تسبّح: “الشامُ كنزُ اللهِ مِن أرضه، بها كنزُ الله مِن عباده”. ثم أومأ الجليلُ من جديد أن أكتبَ، فكتبتُ: “أمّا الشام، فنسبةً إلى شام بن نوح، أو سام بن نوح كما تلفظ السين شيناً معجمة بالسريانية، وقيل نسبةً إلى قومٍ من كنعانَ تشاءموا إليها، أي تياسروا، وقيل لأنّ أرضها شاماتٌ بيضٌ وحمرٌ وسود”. ثمّ بدا الجليلُ مستغرقاً في حنين جليل، وكان ينشدُ: “دمشقُ بنا شوقٌ إليها مبرّحٌ. وإنْ لجَّ واشٍ أو ألحَّ عذولُ / بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتُرْبُها عبيرٌ وأنفاسُ الشمال شَمولُ/ تسلسلَ فيها ماؤها وهو مُطلَقٌ، وصحّ نسيمُ الروضِ وهو عليلُ”.

وأذكرُ: كنتُ أردّدُ وراءَ الجليل، وأذكرُ: تهادتِ الغيمةُ، ثمّ ارتفعت.. تثنّتْ.. طارتْ، ثمّ حطّتْ بنا في الشام.