دراساتصحيفة البعث

الاقتصاد التركي.. أزمة متفاقمة وتدهور مستمر

د. معن منيف سليمان

يعاني الاقتصاد التركي من أزمة متفاقمة وتدهور مستمر، تجلّت مظاهره بوضوح من خلال تواصل هبوط قيمة الليرة التركية، وعجز في ميزان المعاملات التجارية، وزيادة الديون الخارجية، وخفض التصنيف الائتماني، وانخفاض الدخل السياحي وخروج الأموال. ويتحمّل رئيس النظام التركي أردوغان مسؤولية كاملة عن سلسلة الأزمات التي تتعرّض لها البلاد بسبب التخبّط والنكسات السياسية المتتالية، وذلك بالتزامن مع تعرّض السياسة الخارجية التركية لهزات في أكثر من ملف، فضلاً عن تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد التركي.

واصلت العملة التركية تراجعها، وانخفضت إلى مستويات قياسية مقابل الدولار، لتلامس قاعاً جديداً. إذ هوت أكثر من 22 بالمئة أمام العملة الأمريكية منذ بداية العام، فوصل سعر العملة التركية إلى 7.5 ليرات مقابل الدولار، وهو أسوأ رقم لها على الإطلاق، وهبطت أيضاً إلى مستوى قياسي منخفض جديد مقابل العملة الأوروبية عند 9 ليرات لليورو، موسعة خسائرها هذا العام إلى نحو 26 بالمئة، لتأتي بين أسوأ العملات أداءً في العالم. موقع “فوكوس” الألماني، أكد في 27 تموز 2020، أن الليرة التركية تنخفض حالياً بشكل أسرع مما كانت عليه خلال أزمة التضخم الكبيرة خلال عام 2018، خصوصاً بعد تجاوز سعر اليورو حاجز ثماني ليرات. وللمقارنة فإن قيمة الليرة كانت 6.65 مقابل اليورو الواحد بداية العام الجاري.

ولجأ البنك المركزي التركي إلى احتياطي النقد الأجنبي من أجل كبح خسائر الليرة التي تشهد هبوطاً مستمراً منذ سنوات، وذكر البنك  أن ميزان المعاملات الجارية سجل عجزاً قدره 1.82 مليار دولار في شهر تموز الفائت، في رقم يلامس تقريباً توقعات استطلاع رأي أجرته وكالة “رويترز” يظهر أن العجز التجاري في تركيا سيصل إلى حدود ملياري دولار. والعجز في ميزان المعاملات التجارية يعني أن الواردات إلى تركيا أكبر من صادراتها، وهذا مؤشر إضافي على المأزق المالي والاقتصادي للبلاد.

وكانت تركيا قد حقّقت عائدات قُدّرت بنحو 34 مليار دولار في عام 2019، من قطاع السياحة، التي تشكّل دعامة أساسية لاقتصاد البلاد، بعد أن استقبلت نحو 50 مليون سائح، بحسب بيانات “ترك ستات”، معهد الإحصاءات التركي الرسمي. وتوقعت السلطات التركية أنها ستستقبل 85 مليون سائح في العام 2020، وتحقّق عائدات قدرها 40 مليار دولار، لكن هذه التوقعات انهارت بفعل أزمة كورونا وانهيار الليرة.

وحسب البنك المركزي التركي فإن الديون الخارجية المستحقة على تركيا في غضون عام أو أقل، بلغت نحو 170 مليار دولار، وبالتحديد 169.5 مليار دولار في نهاية شهر أيار الفائت، مرتفعة بنحو خمسة مليارات دولار عن الشهر السابق. وشكّلت ديون القطاع العام 23.2 بالمئة من الإجمالي، وبلغت ديون البنك المركزي 11.4 بالمئة، في حين كانت حصة القطاع الخاص من الديون 65.4 بالمئة، وفق ما ذكرت “رويترز”.

وبشكل مشابه، أعلنت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، خفض آفاق الاقتصاد التركي إلى درجة “سلبية”، نظراً لتراجع الاحتياطي النقدي للبلاد وضعف الثقة في سياسة أنقرة المالية. وبحسب شبكة “بلومبرغ”، فإن الوضع في تركيا يثير قلقاً بشأن الحصول على تمويل من الخارج، ولذلك تمّ خفض تصنيف البلاد إلى هذه الدرجة السلبية.

لقد توفرت أسباب موضوعية داخلياً وخارجياً أثّرت سلباً على الاقتصاد التركي وقادته إلى حافة الانهيار، يأتي في مقدمتها انخراط أنقرة في عدد من الأزمات الخارجية هدّدت بحروب لا تُحمد عقباها في شرقي المتوسط، مدفوعة بأحلام العظمة لمن باتوا يُسمّون بـ”العثمانيين الجدد”. فقد انخرط رئيس النظام التركي أردوغان في التدخل في شؤون سورية وليبيا ودعم الإرهاب فيهما، وفي الوقت نفسه ينتهج سياسة، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها، هي أنها تزعج حلفاءه الأمريكيين والأوروبيين. كما أدخل حلف الناتو في مأزق استراتيجي دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحديث عن “موت دماغي” لحلف شمال الأطلسي. أنقرة تتدخل أيضاً كما يحلو لها في شمالي العراق، فيما انتشرت معلومات بشأن دور محتمل لها في دعم تنظيم الإخوان في اليمن. وبذلك تحوّلت إستراتيجية “صفر مشاكل مع الجيران”، التي تبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم في بداية الألفية الحالية، إلى “مشاكل شاملة مع كل الجيران”!.

وفي سياق النزاع حول الثروات الغازية في شرق المتوسط، طالبت الحكومة القبرصية بفرض عقوبات أوروبية “مؤلمة” ضد النظام التركي. وحذّرت نيقوسيا من حرب بين شركاء حلف الناتو، وطالبت الرئاسة الألمانية للاتحاد الأوروبي بالأخذ بزمام المبادرة بهذا الشأن. المتحدث باسم الحكومة القبرصية قال: “نحن بحاجة إلى عقوبات أكثر صرامة.. نحتاج إلى إجراءات أكثر وضوحاً لمنع تركيا من مهاجمة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي”. التكتل القاري أدان أنشطة الحفر التركية في المياه الإقليمية لليونان وقبرص أكثر من مرة. كما فرض عقوبات، لكنها لم تزعج تركيا كثيراً حتى الآن. الاقتصاد التركي مرتبط بشكل عضوي بالاقتصاد الأوروبي، ومن شأن عقوبات صارمة أن تكون لها تأثيرات سلبية على أنقرة، وهذا ما تدعو إليه كلّ من فرنسا واليونان وقبرص.

وشكّل الإنفاق العسكري المتزايد في السنوات الأخيرة عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة في تركيا، الأمر الذي فاقم من المشكلات الاقتصادية التي تعيشها البلاد أصلاً في ظل انهيار العملة المحلية وتفشي فيروس كورونا. ولا يحظى الإنفاق العسكري التركي بأي اهتمام داخل المؤسّسات التركية، سواء في البرلمان أو لدى الحكومة، فضلاً عن ذلك فإن الإنفاق العسكري المتزايد للدولة يشهد تعتيماً غير مسبوق من وسائل الإعلام المحلية.

وعلى الرغم من هذا كلّه، يعد أردوغان الأتراك بأن البلاد ستخرج أقوى من هذه الأزمة. وعدٌ تنقضه الدراسات والمعطيات البيانية، لأن الاقتصاد يقوم على المؤشرات الرقمية والمعطيات الملموسة وليس على مجرد وعود وأمنيات.