ثقافةصحيفة البعث

“إعدام”.. الفشل في الاختيار والمعالجة والمعنى النهائي

واحد من تعريفات “الدراماتورجية” يذهب إلى توصيفها بأنها: (رحلة المعنى من النص إلى الخشبة)، طبعاً هناك تعريفات لا نهائية قد تختلف من مسرحي لآخر، ولكنها على العموم يجب أن تكون: الجهود التي تبدأ باختيار النص والاشتغال عليه من أجل إعداد العرض ثم العرض، فكيف حدث اختيار نص “انسوا هيروسترات “للكاتب السوفييتي غريغوري غورين (1940-2000) الذي يستند فيه إلى نص إغريقي يعود للقرن الرابع قبل الميلاد، لتقديمه على مسرح الحمرا- دمشق في السنة الـ 20 من الألفية الثانية بعد الميلاد؟.

الكاتب الروسي كان قد استعمل التراث اليوناني من أجل الإسقاط والتورية، وفي بيئة مسرحية ثقافية مثل موسكو الستينيات، سيكون من السهل التعاطي مع جمهور يعرف هذه المفردات والأدوات، فهم الآن في مجتمع “المادية التاريخية”، وفي الوقت نفسه لديه بحكم التعليم اطلاع جيد على تراث الأولين، وهكذا ستكون قصة تتناول معبداً وآلهة وشخصية تقوم بإحراق المعبد للحصول على الخلود؛ اختياراً موفقاً في مجتمع سوفييتي، يمكن لجمهوره أن يقارن بين اللجنة المركزية ومجمع الحكم الإمبراطوري ضمن الترميز والإحالة، وذلك ضمن حالة فنية فكرية كان “غورين” واحداً من صقورها فالكاتب يُعتبر من أُسس “البيروسترويكا” التي تحقّقت لاحقاً، وكان من نتائجها أن أودت بالاتحاد السوفييتي إلى الزوال عن خارطة الوجود.

ليس الكلام السابق رفضاً أو قبولاً لآراء كاتب النص الأصلي، وليس انحيازاً ضد أو مع “البيروسترويكا”، فالأمر لا يعنينا، ولكن ما سبق يكفي للتأكيد على أن النص محليّ جداً في بلاده، تماماً كما لو أننا نشتغل على نص من المسرح الياباني، وعن تفصيل محدّد وآنيّ ومرتبط بمكانه، يتناول الصراع بين ملوك الساموراي!.

ثم وماذا شاهدنا على الخشبة؟ جلس الجمهور السوري ليشاهد محاولة اقتباس “سوفييتية” عن نصّ يوناني وباللغة الفصحى!، وهناك كاهن وآلهة متعدّدة، مما يعيد للأذهان قصة تحدث في الفترة الجاهلية؛ المشاعر العامة أثناء مشاهدة قصة منقطعة عن المجتمع السوري والوضع السوري الراهن، وتضرب بعرض الحائط المبدأ المسرحي: (أنا- الآخر- هنا- الآن) وهي أربع نقاط تشويش، جلس الجمهور في مسرح “الحمرا” ينفعل معها تماماً على مبدأ “الأطرش في الزفة!”.

نبدأ مع “أنا”، وهو الجمهور، الذي لم يرَ نفسه في العرض، لا في الشخصيات أو القصة أو الأداء.

“الآخر” في “إعدام” هو “آخر” انقرض مع سقوط الاتحاد السوفييتي.

“هنا” هي موسكو الستينيات الممتزجة لأثينا القرن الرابع قبل الميلاد، وليست دمشق.

“الآن” هي فترة ضبابية لعوالم لم يكن العالم يسمع عنها، فمحاولة اغتيال “بريجنيف” على سبيل المثال، لم تسمع البشرية عنها إلا بعد 30 عاماً من حدوثها، وعند مقارنتها بمحاولة اغتيال “ريغان” نجد أن الأخيرة أصبحت منذ اللحظات الأولى لوقوعها خبراً رئيسياً في الصحف والقنوات الأمريكية؛ روسيا بين 1917 و1990، كانت مغلقة، لا يعلم العالم عنها الكثير إلا الدعاية المنضبطة، فنحن عندما نتذكّر الحالة الفكرية الأدبية في تلك البلاد، نتذكرها من خلال الأدب القيصري العريق والمعروف عالمياً (غوغول 1809-1852، دوستويفسكي 1821-1881، تشيخوف 1860-1904، تولستوي 1828-1910… وغيرهم)، وليس من خلال الأدب السوفييتي، الذي كان جيداً في بدايته بسبب بقايا الحقبة القيصرية، ثم تردّى إلى أن وصل الحضيض في فترة ما بعد الخمسينيات، الأسماء المهمّة في الحقبة السوفييتية، لم تكن لأدباء وإنما لنقاد ومفكرين اشتغلوا أصلاً على الأدب القيصري السابق، ولم يُعرفوا إلا بعد أن غادروا الاتحاد السوفييتي إلى الغرب.

أصحاب الحظ العاثر الذين يدخلون مسرح الحمرا لمشاهدة “إعدام”، سيتعرفون عليه شخصياً، من خلال قيام فريق المسرحية بإعدام كل مبررات اختيار هذا النص!، ولو أن هناك إعادة صياغة أو تعديلات جوهرية غير شكلية، لكان الأمر فيه وجهة نظر، لكننا نشاهد ديكوراً أقلّ ما يُقال عنه أنه “فلكي”، وملابس لا يوجد أي مبرّر لاختيارها، مع الأداء الذي يعجز عن استعمال المساحات والفضاء على الخشبة، إضاءة مجهولة الأسباب لقصة استعملها مسرحي سوفييتي ذات يوم، لتأييد طرف في سجال سياسي مغلق، يتعلق بأيديولوجية بائدة؛ كلُّ ذلك يعطي إحساساً بأننا أمام كائنات فضائية تفعل أشياء غير مفهومة تحت عنوان “مسرح”، بطريقة “قص- لصق” من موسكو الستينيات إلى دمشق 2020، العرض بهذه الحالة دون الاشتغال عليه ليصبح ملائماً للمكان والجمهور، ليس فقط غير مبرّر في دمشق الآن، لكنه لا يصلح أيضاً لموسكو 2020.

قد تصلح أعمال “تشيخوف” للاشتغال عليها في أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من بقاع الأرض، لأن أدب “تشيخوف” عابر للأزمنة، مثلما يُفترض أن يكون الأدب الجيد، ولكن نصوص “غورين” مرحلية لا تعيش طويلاً، لو أن صنّاع المسرحية حافظوا على الأصل الروماني، ربما كان الوضع أفضل.

ثمّة سؤال يُطرح على مسرحي كبير بحجم زيناتي قدسية الشهير بـ”الطيراوي”، وهو: لماذا الاعتماد على نص أجنبي أساساً على حساب النص المحلي؟.

بقي أن نذكّر بأن عرض “إعدام” من إنتاج المسرح القومي- مديرية المسارح والموسيقا، إعداد وإخراج زيناتي قدسية، تمثيل كلّ من: قصي قدسية– جمال العلي– خوشناف ظاظا– محمود خليلي– سامر الجندي– زهير عبد الكريم– صفاء رقماني– جمال نصار– وزيناتي قدسية.

تمّام علي بركات