مجلة البعث الأسبوعية

الغرب يمنع جلسة استماع في مجلس الأمن حول حادثة دوما.. فضيحة تزوير التقرير الأولي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية

“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد

للمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، يطعن أعضاء في مجلس الأمن الدولي بدعوة وجهها رئيس المجلس للاستماع إلى شهادة أحد كبار الخبراء. كان ذلك في الخامس من تشرين الأول الجاري، عندما أرادت روسيا اطلاع المجلس على شهادة البرازيلي خوسيه بستاني، المدير السابق لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، حول الهجوم الكيماوي المزعوم في دوما، في الغوطة الشرقية، في 7 نيسان 2018، والذي سارعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، إثره، لقصف سورية بعد اتهامها باستخدام الغازات السامّة، ليجد مفتشو المنظّمة، في وقتٍ لاحق، أدلّة تقوّض الرواية الرسمية الغربية، لكن، ومرة أخرى، يسارع رئيس ديوان الأمانة العامة للمنظمة، الدبلوماسي الفرنسي سيباستيان براها، للإشراف على تزوير التقرير النهائي، ليتم بعد ذلك تعديل النظام الأساسي للمنظمة – بناءً على اقتراح من فرنسا – بحيث تتمكن الدول الغربية من منع أي مناقشة حيال هذه الفضيحة.

كان بستاني كشف، في 23 تشرين أول 2019، مع مجموعة من سبعة خبراء، أن التقرير الأولي لبعثة تقصي الحقائق التابعة للمنظمة تم تزويره، متحدياً الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، للمرة الثانية، بقراره عرض وجهة نظره على مجلس الأمن الدولي والتضامن مع خبراء المنظمة المبعدين الذين تحدثوا عما يعتقدون أنه مخالفات خطيرة وإخفاءات للأدلة في تقريرهم عن أحداث دوما. كان بستاني شغل منصب أول مدير عام للمنظمة، في الفترة من 1997 إلى 2002. ومع قرب نهاية ولايته، مارست إدارة بوش ضغوطاً هائلة لإجباره على الاستقالة، وتم تهديده شخصياً بعد تسهيله عمليات التفتيش التي أعاقت غزو العراق. ويذكر بستاني أن جون بولتون أمهله 24 ساعة لمغادرة المنظمة: “إذا لم تمتثل لهذا القرار، فلدينا وسائل للرد. نحن نعلم أين يعيش أطفالك”.

وفي بيان وزعه، خارج المجلس، شدد بستاني على أنه لا يمكن استعادة الثقة بمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية وترميم سمعتها الملطخة إلا من خلال الشفافية في تقديم الأدلة والتعامل مع المفتشين المنشقين والالتزام بالمبادئ الدقيقة والعلمية. وقال: “إذا كانت المنظمة واثقة من متانة عملها العلمي في دوما ونزاهة التحقيق، فلا داعي للخوف من سماع مفتشيها المعارضين”.

والحقيقة، فإن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة رفعت جدار حماية دبلوماسياً أمام تقديم أدلة من شأنها فضح منظمة الحظر على أنها مخترقة، والطعن في تقريرها عن دوما باعتباره محاولة احتيالية، بأثر رجعي، لتبرير عدوان أمريكي بريطاني فرنسي استهدف سورية بعد أيام قليلة من حادثة دوما المزعومة، وقبل إنتاج “ملف مشكوك فيه” بوقت طويل. لقد فرضت العواصم الثلاث رقابة على الأعضاء المنشقين من فريق التحقيق التابع للمنظمة، وعلى البستاني، للحفاظ على رواية مبتذلة، تماماً كرواية أسلحة الدمار الشامل العراقية سابقاً، كما أجبرت الرئيس الدوري لمجلس الأمن الدولي، السفير الروسي فاسيلي نيبينزيا، على التصويت على استدعاء بستاني لتقديم عرضه. رفضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإستونيا هذه المبادرة، وكان إحباط نيبينزيا واضحاً، فقد اتهم الدول الست بلفتة غير مسبوقة من خلال حظر إحاطة إعلامية، ووصف قرار إنكار الشفافية هذا بأنه “عار.. عار”، وقرر قراءة شهادة بستاني المحظورة بنفسه، كممثل لروسيا.

واجه المجلس وصمة عار لا تصدق عندما حاول دول غربية عديدة، وبلا خجل، إغلاق فم بستاني. وكان ذلك دليلاً واضحاً على كيفية “اهتمامهم” بالحقيقة والشفافية.

 

إعادة بناء سردية دوما

في إعادة بناء لتسريبات ويكيليكس، يقول مفتشو فريق المنظمة إن تحقيقهم تم التلاعب به بضغط مباشر من الإدارة الأمريكية، وأن المنظمة أخفت أدلة تشير إلى وقوع الحادث على الأرض، وأصدرت بدلاً من ذلك تقريراً يشير إلى مسؤولية الحكومة السورية.

قابلت بعثة تقصي الحقائق التابعة للمنظمة عشرات الشهود وزارت مواقع عدة رئيسية. وفحصت اسطوانات الغاز التى عثر عليها فى مكان الحادث، وأخذت عينات كيماوية ومئات الصور وأجرت قياسات مفصلة. ولدى عودتها من سورية، أعدت تقريراً مفصلاً عن النتائج التي توصلت إليها. ولكن ما وجده المحققون في دوما ليس ما أطلقته منظمة الحظر للعالم، ذلك أن المحققين الذين عملوا على الأرض تم إقصاؤهم، وتم فرض رقابة على النتائج التي توصلوا إليها. فقد أعيد تحرير التقرير الأولي – الذي كان من المقرر نشره – لإنتاج نسخة انحرفت بشكل حاد عن النسخة الأصلية. وبالمقارنة فقد أزيلت الحقائق الرئيسية، أو أسيء تأويلها. كما أُعيدت صياغة الاستنتاجات لدعم الادعاء بوقوع هجوم بغاز الكلور في دوما.

وفي الواقع، لم يخلص التقرير الأولي إلى وقوع هجوم كيميائي، بل عرض احتمال مقتل ضحايا في حادث “غير كيميائي”. وعلى الرغم من عدم التلميح، يمكن للقارئ أن يستنتج بسهولة أن الإرهابيين الذين كانوا يسيطرون على دوما، في ذلك الوقت، قد نظموا المشهد ليظهر زوراً أن هجوماً كيميائياً قد وقع.

ثم هناك تقييم السموم. فقد خلص أربعة من خبراء المنظمة إلى أن الأعراض التي لوحظت على الضحايا “كانت غير متسقة مع التعرض للكلور، وأنه لا يمكن تحديد أي مادة كيميائية واضحة أخرى تنسبب مثل هذه الأعراض”. ولكن هذا الاستنتاج أُبقي سرياً، لأنه لا يتفق مع استنتاجات التقرير النهائي.

كما أظهرت اختبارات العينات التي تم جمعها أن المركبات المكلورة قد اكتشفت بكميات ضئيلة ولا تكاد تذكر. ومع ذلك، لم يتم الكشف عن هذه النتيجة أيضاً. علاوة على ذلك، تبين في وقت لاحق أن المواد الكيميائية نفسها لم تصنف باعتبارها فريدة من نوعها: “معظمها، إن لم يكن كلها، يمكن أن يكون قد نتج عن الاتصال مع المنتجات المنزلية مثل الغسيل – أو جاء من مياه مكلورة أو مواد حافظة. والأهم من ذلك أن العينات التي جمعها المفتشون لإعطاء سياق لنتائج التحليل لم يتم تحليلها قط.

 

احتجاج من الداخل

كان المؤلف الرئيسي للتقرير الأولي، الذي حددته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية على أنه المفتش B، من بين أولئك الذين تم إرسالهم إلى سورية بمهمة كاملة. وتظهر السجلات أنه كان أيضاً، في ذلك الوقت، أكبر خبير للأسلحة الكيميائية في المنظمة.

وكان من بين المشاركين في جلسة الأمم المتحدة المفتش السابق لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، إيان هندرسون، وهو عضو في فريق دوما؛ والفيزياء الحائز على جائزة تيد بوستول، والأستاذ الفخري في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومستشاراً سابقاً في البنتاغون.

في 22 حزيران 2018، وفي رسالة عبر البريد الالكتروني، احتج المفتش B على التنقيح السري للتقرير معرباً عن “قلقه البالغ” بعد قراءته للتقرير المعدل: “.. أدهشني مدى تحريفه للوقائع”، كما كتب.

بعد بريد الاحتجاج الإلكتروني، وقبل أيام من موعد نشر التقرير المؤقت، في 6 تموز، حدث شيء غير عادي للغاية. فقد اجتمع وفد حكومي أميركي مع أعضاء فريق التحقيق في محاولة للتأثير عليهم. شجع المسؤولون الأمريكيون فريق دوما على الاستنتاج بأن الحكومة السورية قد ارتكبت هجوماً كيميائياً بالكلور. وللمفارقة، فقد روّج الوفد لنظرية الكلور هذه على الرغم من أنه لم يكن معروفاً حتى الآن أنه لم يتم العثور على أي غاز أعصاب في دوما.. رأى المحققون أن الاجتماع كان ضغطاً غير مقبول وانتهاكاً لمبادئ الاستقلالية والنزاهة المعلنة للمنظمة.

أحبط تدخل المفتش Bالصدور الوشيك للتقرير المزوّر. ولكن، في تلك المرحلة، بدأ مسؤولو المنظمة بإدارة عملية إصدار تقرير جديد متفاوض عليه، وهو ما يسمى بالتقرير المؤقت الذي كان صدر في 6 تموز 2018. ورغم أن هذا التقرير لم يعد يتضمن بعض الادعاءات غير المدعومة التي حاول كبار مسؤولي المنظمة إدراجها، إلا أنه لم يعد يتضمن، بالمقابل، حقائق رئيسية موجودة في التقرير الأصلي غير الخاضع للرقابة.

في ذلك الوقت، شهد التحقيق تغييراً جذرياً. أما المفتش B، والذي كان قد كتب التقرير الأصلي، فقد تم تهميشه. ثم أصدر المديرون التنفيذيون للمنظمة قراراً يقضي بأن التحقيق، من تلك النقطة إلى الأمام، سيتولى معالجته ما سمي “الفريق الأساسي”، وهو الفريق الذي استبعد جميع المفتشين الذين أجروا التحقيق في سورية رسمياً، باستثناء واحد منهم. وكان هذا “الفريق الأساسي”، وليس المفتشون الذين وقعوا على التقرير الأصلي – هو الذي أخرج التقرير النهائي، في آذار 2019.

جاء التقرير النهائي مختلفاً تماماً عما التقرير الأولي المُغفل، وخلص إلى أن هناك “أسباباً معقولة” للاعتقاد بأن هجوماً بالأسلحة الكيميائية وقع في دوما، وأن “المادة الكيميائية السامة كانت على الأرجح جزيئات الكلور”. واستمر حذف العديد من الوقائع والأدلة الحاسمة بعد تنقيحها من التقرير الأصلي. فعندما يتعلق الأمر بالشهود، يظهر التقرير النهائي تبايناً كبيراً، فقد قدم الشهود الذين تمت مقابلتهم روايات متناقضة بشكل حاد – ومع ذلك، لم يُستخدم لاستنتاجات التقرير إلا الشهود الذين أيدت شهاداتهم استخدام الأسلحة الكيميائية. كما كان هناك عدم توازن في مواقع الشهود، فعلى الرغم من وقوع الحادث الكيميائي المزعوم في سورية، فقد تمت مقابلة ضعف عدد الشهود في بلد آخر “X”.

كان أحد الاستدلالات المستمدة من التقرير النهائي أن اسطوانات الغاز التي عُثر عليها في دوما قد تكون أسقطت من طائرات عسكرية. ولكن شهادة تقييم هندسي تم تعيينها لفريق فرعي من بعثة تقصي الحقائق وجدت خلاف ذلك.

لم تقدم قيادة المنظمة تفسيراً موضوعياً لسبب استبعاد هذه الأدلة الهامة وسبب تغيير التقرير الأصلي تغييراً جذرياً. وبرر المدير العام للمنظمة، فرناندو أرياس، استنتاجات التقرير النهائي، والسلوك العلمي الاحتيالي، بالقول إن البعثة “قامت بالجزء الأكبر من عملها التحليلي” خلال الأشهر السبعة الأخيرة من التحقيق – أو بعد التقرير المؤقت الذي نُشر في تموز 2018. ولكن الاستعراض الدقيق للتقرير النهائي يظهر أن هذه المسألة أبعد ما تكون عن واقع الحال. وكما لاحظ المفتشون المعارضون، فمع حلول توقيت صدور التقرير المؤقت، كان تم تحليل 31 عينة من العينات الـ 44، كما أجريت وحللت 34 مقابلة من بين 39 مقابلة، وأجريت بالفعل دراسة السمية، ولكن الاستنتاجات استبعدت. وفي الأشهر الثمانية التي تلت صدور التقرير المرحلي تقريباً، تم تحليل 13 عينة جديدة فقط، بالإضافة إلى 5 مقابلات إضافية.

ولكن حتى لو كان صحيحاً أن الجزء الأكبر من التحليل تم بعد التقرير المؤقت، فإن حقيقة أن منظمة الحظر كانت ستقوم بالجزء الأكبر من عملها بعد تموز 2018 لن تفسر – أو تبرر – الاحتيال العلمي الذي ارتكبته قبل ذلك التاريخ. والواقع أن ذلك لن يؤدي إلا إلى إثارة احتمال حدوث المزيد من التزوير والتلاعب.

وبدلاً من معالجة المخالفات والتناقضات، قام أرياس، أيضاً، بتشويه سمعة عضوي فريق دوما لتقصي الحقائق اللذين طعنا بالتلاعب بالحقائق والأدلة: المفتش A، الذي تم التعرف عليه فيما بعد باسم إيان هندرسون، والمفتش B، وقد عمل كلاهما مع المنظمة مدة 12 و16 سنة على التوالي، وقدمت التقييمات الداخلية لأدائهما الوظيفي ثناءً غاية في الرفعة. ففي عام 2005، كتب مسؤول كبير في المنظمة أن “هندرسون حصل باستمرار على “أعلى تقدير ممكن.. اعتبره من أفضل قادة فريق التفتيش لدينا”. وفي عام 2018، كتب أحد كبار مسؤولي المنظمة أن المفتش B “ساهم أكثر من غيره في معرفة وفهم كيمياء الأسلحة الكيميائية المطبقة على عمليات التفتيش”. ووصف مدير آخر “B” بأنه “واحد من أكثر قادة الفرق شهرة”، و”.. حكمه لا مثيل له”.

 

سمعة ملطخة

واجهت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فضيحة خطيرة، فقد استُغلت لاتهام الحكومة السورية بهجوم دوما، كما استخدمت لتبرير قصف سورية بأثر رجعي، بعد أيام فقط من الحادثة المزعومة. علاوة على أن المنظمة ردت على اثنين من مسؤوليها كانا جزءاً من تحقيق دوما، ويحظيان بتقدير كبير، بالتسميم والطعن بسمعتهما، بدلاً من حمايتهما، وإتاحة الفرصة لهما للإعراب عن مخاوفهما.

ولكن أهمية معالجة هذه المسألة تتجاوز بكثير مسألة إصلاح سمعة منظمة، ذلك أن سورية بلد يحاول الآن إعادة البناء من حرب مدمرة بالوكالة مستمرة منذ قرابة عقد من الزمن، وتسببت في معاناة هائلة ودمار وموت. ولكن في الوقت الذي تحاول سورية إعادة البناء، فإنها تواجه الآن نوعاً من حرب جديدة تتخذ شكل عقوبات اقتصادية خانقة. ولكن استخدام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتبرير الحرب على سورية – سواء على شكل ضربات عسكرية في عام 2018، أو على شكل خنق اقتصادي، اليوم، في عام 2020 – أمر في غاية المأساوية، فالمنظمة مُنحت، قبل سبع سنوات فقط، جائزة نوبل للسلام لعملها في مجال القضاء على الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك في سورية. وكم هو مؤسف أن نرى أكبر هيئة لمراقبة الأسلحة الكيميائية في العالم ضالعة، اليوم، بتقديم ادعاءات غير مثبتة ضد سورية وتبرير الحرب ضدها.