مجلة البعث الأسبوعية

المجتمع الأهلي ينهض في لهيب الجمعة الحزينة النيران تخطف “شقا العمر” وآلاف دونمات الأشجار والأعشاب النادرة استحالت رماداً

“البعث الأسبوعية” ــ ريم ربيع

بعد أيامٍ أربعة لاهبة خمدت أخيراً نيران الحرائق مخلّفةً وراءها أراضٍ رمادية عارية لم يترك لها نهم اللهب ما تستتر به بعد أن كانت يوماً غطاءً أخضر يحتضن ويطعم ويسقي كل زائرٍ بلا مقابل.. لمئات السنوات يمتد عمر الغابات والأشجار التي تفحمت، وقد يستغرق تعويض الخسارة سنواتٍ طوال أيضاً، لا سيما وأن جزءاً كبيراً منها هو من أشجار السنديان والصنوبريات المعمرة، فضلاً عن مساحاتٍ واسعة من الأشجار المثمرة، وفي مقدمتها الزيتون والحمضيات، الرافد الأساس لزراعة واقتصاد المنطقة، حيث يعتبر موسم الزيتون الذي أوشك على بدايته هو المردود الأساسي لأهل المناطق التي طالها الحريق يليه الحمضيات والأعشاب الطبية النادرة.

 

تشتت

مساء الخميس، وفجر يوم الجمعة، 9 تشرين الأول، كانت البداية في سلسلة من الحرائق شملت جبال اللاذقية وطرطوس وحمص، بعد أن أجهزت منذ أسابيع قليلة فقط على غابات أرياف حماة في مصياف والغاب، والتهمت كل ما طالته من الحراج وأشجار السنديان والبلوط المعمرة وأرزاق عشرات الفلاحين، إلا أنها هذه المرة كانت أكثر امتداداً وشدة حتى وصفها البعض بأنه لم يسبق لها مثيل، ما تسبب بدوره بتشتت فرق الإطفاء والمؤازرة بين عشرات البؤر. وعلى ذمة الخبراء، فقد شكلت حالة الطقس من جفاف ورياح شديدة، عاملاً مساعداً على انتشار النيران وانتقالها من بقعة إلى أخرى، ما استدعى مشاركة أكثر من 191 سيارة إطفاء وصهريج بعضها من محافظات دمشق والقنيطرة، فضلاً عن المشاركة الأساسية للأهالي وعناصر الجيش في إطفاء الحرائق، فلم يكن مشهد النيران وهي تلتهم ” شقى العمر” ليبعد أياً من الفلاحين عن أرضه، بل وجدنا من حاول حماية رزقه بوسائل بدائية لا تتعدى عبوة مياه صغيرة، أو غصن شجرة، أو حتى بيديه العاريتين، والندوب التي خلفها اللهب على أجسادهم ليست بقسوة تلك التي تركها في أراضيهم بعد أن استحالت رماداً.

 

تهديد

171 حريقاً في ذات الوقت تقريباً، امتدت في البداية في مناطق مشتى الحلو والكفرون اللتين تعدان من أهم مقاصد السياحة في ريف طرطوس، وتوزعت الحرائق في جنينة رسلان وبحيسيس في الدريكيش وشير الحور في الشيخ بدر، والعنازة التي استمرت النيران بالتهام غاباتها لساعاتٍ طوال قبل أن يتدخل أحد لإطفائها! أما في اللاذقية، فقد كان أشد الحرائق في منطقة أم الطيور ووادي قنديل وامتدت على مساحات واسعة تتضمن نباتات نادرة ومثمرة حتى وصلت إلى الشاطئ تقريباً. كما شهد ريف القرداحة والحفة اندلاع حرائق عدة هددت الأهالي وهجرتهم من بيوتهم وطالت مؤسسات حكومية كمستودعات التبغ، وشكلت تهديداً على محتويات المصرف الزراعي من الأمونيوم، كما تسببت بإخلاء مشفى الباسل في القرداحة خوفاً من وصول النار إليه، وفي حمص توزعت النيران في قرى حبنمرة والجويخات وبرج المكسور والمزينة ووادي الجاموس في الريف الغربي للمدينة، فيما لقي 3 أشخاص حتفهم في اللاذقية، وتجاوزت الإصابات 70 شخصاً، وسجلت في طرطوس 10 حالات اختناق أثناء محاولات محاصرة النيران.

 

أكبر الخاسرين

تفاوتت الأضرار بين الأراضي الزراعية والحراجية وفقاً لكل منطقة، إلا أن الضرر الأكبر – بحسب الجهات المعنية – كان من نصيب الأراضي الحراجية، ورغم أننا لم نحصل على إجابة واضحة بالمساحات المتضررة من مديرية الحراج في وزارة الزراعة، أو حتى من الاتحادات والنقابات المعنية، لعدم اكتمال الصورة لديها بعد، إلا أن رئيس الاتحاد العام للفلاحين أحمد إبراهيم أكد في تصريحات لـ “البعث الأسبوعية” أن حصة اللاذقية من الأضرار هي الأكبر، وجاءت الأراضي الحراجية في المقدمة، تلتها أشجار الزيتون بشكل رئيسي، ثم الحمضيات، ثم باقي الأنواع من الأشجار المثمرة. وبيّن إبراهيم أن حوالي 30 منزلاً قد تضررت بشكل جزئي أو كامل، وسُجل نفوق 7 أبقار والعديد من خلايا النحل، فيما شهدت أغلب البيوت المتضررة جزئياً عودة أهاليها إليها فور إطفاء الحرائق، أما التعويضات للفلاحين فهي – وفقاً لإبراهيم – تعود لتقديرات اللجان المشكلة، آملاً إصدار قرارات استثنائية نظراً للظرف الراهن لأن نسبة تعويض صندوق الجفاف والكوارث 10% فقط. وشدّد إبراهيم على مساعدة الفلاحين بإعادة التشجير بشكل كامل، ورفدهم باليد العاملة، واستمرار عمليات التشجير من 15/ 10 إلى 15/ 3، موضحاً أنه لا يمكن إحصاء عدد الفلاحين المتضررين الآن، فيما لا تزال عمليات التبريد مستمرة حتى إخماد النار نهائياً.

 

حصيلة أولية

وبالعودة إلى الأرقام، فقد أعلنت مديرية زراعة حمص عن تقديرات أولية للخسائر تتمثل في 11 ألف شجرة مثمرة، و2500 دونم في ريف حمص الغربي. وبحسب تصريحات سابقة، فقد طالت الحرائق 500 دونم من الأراضي الزراعية و500 دونم بور وهبيش، و1500 دونم أراض حراجية، أما الأشجار فهي بأغلبها زيتون يليها التفاح والحمضيات والخوخ.

 

أسئلة مشروعة

إذاً، فقد انطفأت النيران واشتعلت بعدها عشرات – بل مئات – الأسئلة والصرخات: كيف؟ ولماذا؟ ومن؟ وبأي وسيلة؟ ولأي غاية؟ ولمنفعة من كل هذا الخراب؟ فإن كان هناك حتى الآن من يقارب هذه الكارثة من المنحى الوجداني العاطفي وحسب، ويقف عند حد رثاء جمال الطبيعة وخضارها المغتصب، فلا بد له الآن أن يستفيق من رثائياته، ويدرك كمّ الخراب اللاحق بالمنطقة ككل، على جميع المستويات البيئية والغذائية والاقتصادية والاجتماعية والسياحية، والسعي لمعرفة سبب اشتعال عشرات الحرائق في التوقيت ذاته. ومع أن الوقت مبكر قليلاً على نتائج التحقيقات إلا أن النتيجة ستبقى ذاتها حتى لو تم إلقاء القبض على الفاعلين، فمن لا يجد رادعاً حقيقياً، وجدية في التعامل مع الأمر، لن يوقفه التهديد والوعيد. وهنا تجدر الإشارة إلى إيقاف الوحدات الشرطية في طرطوس لـ 14 مشتبهاً بتورطهم في إشعال الحرائق، وكذلك في اللاذقية حيث تم إيقاف عدد من المشتبهين والتحقيقات لا تزال جارية.

 

أنواع نادرة

“هي كارثة بكل معنى الكلمة، فترميم سنتيمتر واحد من التربة يتطلب آلاف السنوات!”، هكذا أشار الخبير الزراعي، المهندس عبد الرحمن قرنفلة، إلى حجم الضرر الحاصل، موضحاً أن الأضرار البيئية تتحدد وفقاً لشدة الحريق ومدة استمراره ونوعية الترب والأشجار والكائنات الحية التي تأثرت، إلا أن الأضرار تكون عميقة عادةً في حرائق الغابات. وفي حديثه لـ “البعث الأسبوعية”، بيّن قرنفلة أن الضرر على المدى القصير يتمثل بالأشجار المثمرة والحراجية والمكونات النباتية تحتها من شجيرات وأعشاب اختفى جزء كبير منها الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه مجمعات جينية وراثية وأنواع قد تكون نادرة أو في طريقها إلى الانقراض، كما أن مأوى المئات من الكائنات والطيور والحيوانات والحشرات قد احترق. أما على المدى البعيد، فإن مدة الحريق وشدته قد تؤثر على مواصفات التربة الفيزيائية والكيميائية، ففي بعض الحالات تصل دررجة الحرارة على عمق 30 سنتمتر لحوالي 5000 درجة مئوية، مما يؤدي لتدمير كل الكائنات الحية الدقيقة في الطبقة النافعة الزراعية وقتل الأحياء الموجودة والضرورية للغابة، وقد تحول البنية الكيميائية للأرض إلى بنية حامضية يصعب بعدها أن يعيش أي شيء فيها.

 

منفعة متبادلة

ورأى قرنفلة أنه بمثل هذه الحالات، يفترض الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، فهناك أنواع من الأشجار مضادة للحريق، أو صعبة الاشتعال، يجب أن يتم تطعيم الغابات بها، بالإضافة لوضع إستراتيجية وطنية وتوعية اجتماعية، فهذه مسؤولية مجتمعية وليست حكومية فقط، كون المنتفعين من الغابات هم مختلف مكونات المجتمع، ومع ذلك نرى الإرشاد التوعوي لأهمية الغابات ضعيفاً جداً.

وبدل التباهي بالإنجاز بعد إطفاء الحرائق، كان الأجدى التباهي بالحيلولة دون حصولها أساساً، وفق تعبير قرنفلة الذي اعتبر أنه حتى اليوم لم تصل الجهات المعنية إلى فهم واضح لاحتياجات السكان القريبين من الغابات، وهم الطبقة الأشد فقراً في المجتمع، ويمكن لهم أن ينتفعوا من الغابة بشكل أو بآخر، إلا أنهم ممنوعون من ذلك، فيفترض وجود خطة وطنية لإيجاد منفعة متبادلة بين الغابة والسكان المحيطين بها لتحويلهم لـ “أصدقاء” للغابة، حريصين عليها، فطالما يتم منعهم من دخول الغابة والزراعة فيها لن نشهد الاهتمام المنشود بالغابات.

 

انفعالية

وتساءل قرنفلة عن الإجراءات الاستباقية المتخذة، ولماذا لم نشهد منها شيئاً، لتكون الجهات الحكومية بدور المنفعل لا الفاعل، إذ تفتقر المنظومة الزراعية لنظام الإنذار المبكر، أو الأساليب المتبعة في الحد من الحرائق عبر التخلص من الأعشاب والأغصان اليابسة بطرق سليمة، فضلاً عن غياب الطائرات عن مخطط أي من الحكومات السابقة، رغم إدراكها لاستحالة الوصول إلى الكثير من الأراضي، لافتاً إلى أنه لدينا ضابطة حراجية بصلاحية الضابطة العدلية مع قانون حراج متطور لكن لا نزال نفتقر للإجراء الاستباقي.. وهو الأهم.

 

تكاتف أهلي

وأمام مشهد النيران والأهالي المهجرين، أظهر المجتمع المدني تجاوباً سريعاً مع الحدث، فسرعان ما شُكلت حملات تطوعية على مستوى شعبي وحكومي ونقابي لمساعدة المتضررين وتقديم العون ريثما يعودوا إلى منازلهم، والمساهمة من المنظمات والتجمعات الشبابية في إطفاء الحرائق، فضلاً عن المسارعة في التحضير لإعادة التشجير من فرق قديمة أو حديثة التشكيل، كما أطلقت الفعاليات الاقتصادية حملات للتبرع كغرف التجارة والصناعة في دمشق وريفها، إذ لفت أمين سر مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، أكرم الحلاق، إلى أن مبادرة “برداً وسلاماً سورية” التي أطلقتها الغرفة تستهدف جمع التبرعات من المجتمع الصناعي لمساعدة من احترقت بيوتهم وأرزاقهم، عبر تقديم مساعدات مالية وعينية ريثما يعودون لبيوتهم، إضافة إلى إمكانية المساهمة في إعادة إعمار البيوت المحترقة كلياً حسب الإمكانيات المتوفرة، مشيراً إلى أنه يتم الآن مرحلة الجمع والتجهيز والتوضيب بانتظار التعليمات الناظمة لتوزيع المساعدات بحيث تصل لمستحقيها.

 

الوعي أولاً

وزير الزراعة حسان قطنا كان قد صرح، خلال متابعته للحرائق، بوضع خطة وتشكيل فرق ومجموعات عمل ولجنة رئيسية برئاسة المحافظ، ومركزية على مستوى مدير الزراعة والجهات التابعة، لحصر كافة الأضرار على المواقع الحراجية والمنازل والأشجار المثمرة، مؤكداً أن الوزارة ستقدم 6 مليون غرسة لإعادة تحريج كافة الأماكن المحروقة، ولكن وفق أسس علمية، كما وعد بتعويض المتضررين بغراس مثمرة مجانية مع إمكانية مساعدتهم على تغيير نوعية الأشجار المزروعة بما يتناسب مع مناطقهم ويحقق عائداً اقتصادياً أكبر لهم. وهنا لا بد من التعويل على الوعي الشعبي في عمليات التشجير التي لم تعد مجرد شعارات وصور تذكارية بل باتت ضرورة حتمية بعد كل ما خسرته الأراضي من غطائها الأخضر، فلا يمكن انتظار الحكومة فقط بل يتطلب الأمر جهداً مجتمعياً من كافة الفئات لتدارك الخسائر بأسرع ما يمكن والحد من النتائج الوخيمة التي سنلقاها في البيئة والمناخ والغذاء.