ثقافةصحيفة البعث

صالح هواري في “فنجان الغيم”

تكاد القصيدة عند الشاعر الكبير صالح هواري في مجموعته “قراءة في فنجان الغيم” أن تكون همّاً يومياً، يلقي على عاتق حروفها تبعات الفرح القادم بالنصر، مثلما يحمّلها مسؤولية فتح آفاق الأمل على كل مصراع، فهو شاعر وطني وعروبي وإنساني وملتزم يحمل همّ وطنه السليب، وقد عاش فيه وعرفه معرفة الطفل لثدي أمه، ومازالت طبريا كما هي عنده وفي قلبه، وكذلك فلسطين كل فلسطين:

يا طائر البرق خذني      على جناحيك وارحل

عد بي إلى طبريا         حبي لها ما تبدّل

هو الذي سرقت سيدة الندى فؤاده، حتى كاد يضيع في عيني بردى، وهي سيدته وملهمته، ولن يمدّ يداً إلا إليها، ومن حق الشاعر ولا غرابة في أن تتنازعه طبريا والشام، ومتى كانت هذه المدن غير حاضرة واحدة موحّدة الهوى والقلب واللسان.

في المجموعة محاور عدة أو أغراض شعرية تستحق الوقوف ملياً عندها، ولاسيما ما اتصل منها بالوطن السليب والشتات، وما نشهده من انهيار وتهافت ممالك النفط على التطبيع وتشكيل حلف مع العدو الغاصب والمحتل، وفي هذا الغرض الشعري النبيل يرى الشاعر صالح هواري نفسه الشعب الفلسطيني، ضوء الله شكّله وورث عباءة التاريخ قبل ولادة الزمن، وهو الذي قدّم الشهداء قرباناً بلا ثمن ص 105 لذلك يصرخ من قلب مجروح وينادي نداء الثوار:

قف عند حدّك أنت لست مفوضاً لتفاوض الغرباء عني

أو أن تمدّ يداً لمن سرقوا قميص الشمس مني

أنا ما انتخبتك سندباداً يختفي القرصان بين يديه

أو سيداً للعشق تزدحم الحسان ببابه

وهو القائل بحزم:

في بيت نارك طلقة تسعى وأنت بسرها عارف/ نحو الدريئة قم وسدّدها، ستخسرها إذا ارتجفت يداك على الزناد وأنت خائف.

على أن الغرض الشعري الثاني هو الحب وفيه من الطرافة والوجدانية ما يجعلني أطلق على صالح هواري لقب وزير الحب وهو الذي يقول:

لو كنت وزيراً للحب/ أمرت بإغلاق الأقفاص على العشاق/ لئلا أحرمهم من فاكهة الحرية/ وسمحت بلصق الصور على ماء القمر/ وحفر الأسماء على الشجر/ وفوق زجاج المطر.

ومن ذكرياته أن شقراء جلست بقربه بعد أمسية وفي نظراتها تتواثب النظرات: شقراء لو نظرت إلى مرآتها ذابت لسحر جمالها المرآة/ عينان زرقاوان يخفق فيهما نبض السماء وتسبح النجمات.

ومثل ذلك قوله عما جرى بينه وبين السيدة صاحبة البيت وشريكة العمر:

كذبت يوماً عليها أن لي صلة/ بغيرها وكلامي ما له أسس

وغايتي أن أثير الحب في دمها/ وأن أرى كيف ردّ الفعل ينعكس

من ضحكتي اكتشفت أني أمازحها/ وأن ما قلته كذب ومختلس

حتى يقول:

من نبض حبي لها في البيت تعرفني/ ومن صهيل هواها تعرف الفرس

ومن طرائفه أبو الوليد الفاكهاني الذي في عينيه أسئلة تطير:

خذوها حكمة مني وطوفوا بقنديلي عليكم واستنيروا.. لماذا حين تختلط الأمور يصير النور طيناً وهو نور؟

حتى يقول:

على أرق ينام النوم فينا/ إذا أيقظنه انقلب السرير

وأبو الوليد الفاكهاني شخصية من خيال الشاعر هكذا خرج ليفتح باب القصيدة، وما علينا إلا أن ننتظر أبا رشيدة.

ومن أجمل الدروس التي علمتنا إياها الحرب حيث صار ظل الموت عادة ولم يعد للخوف فينا ملجأ تحت الوسادة، يصرخ الشاعر بملء حنجرته يا هنيئاً لشهيد عاشق يفدي بلاده.. حمل الشمس وساماً فحملناه قلادة.. كلما مرّت جنازة زادنا الله إرادة. فأي دروس هذه وأي عبادة؟.

لقد صارت القصيدة بين يدي الشاعر أضمومة عطر وهي نداء وصوت يتعالى لا يأبه لقوافل المنهزمين ولا للذين تنكروا لسيدة الندى حبيبة الشاعر دمشق.

بقي أن أشير إلى هذا الانزياح اللفظي الجميل عند الشاعر في العنوان والذي يشكّل عتبة عبور للديوان، فالأصل في مثل هذه القراءة لفنجان الغيب وليس لفنجان الغيم، لكن الشاعر ليس في صدد النبوءة بل هو قارئ حصيف لما تحمله الأيام والأحداث وإن تلبّدت الغيوم واتسعت دائرة المجهول فيها.

رياض طبرة