مجلة البعث الأسبوعية

عندما يتحدث الكبار عن بدايات الكتابة: “تلك الدهشة االتي أخذتنا صغاراً ٕلى أرض الحلم”!

“البعث الأسبوعية” ــ جُمان بركات

الزمن، وعلاقتنا به، حالة معقدة تمتزج فيها مشاعر الرضا بالنقمة والسعادة بالحزن. كل وقت يمضي تجربة، وكل ما هو آت حلم ورؤى.. تختلط المشاعر والأحاسيس، ويبقى المبدع وحده القادر على الرقص بهدوء على حبال الزمن؛ فما بالنا بمن اهتم بالطفولة، أو كتب ورسم لها، واقتطع من زمنه لحظات ليعايش فيها إبداع الطفل في داخله.. معهم سنُبحر في رحلة زمنية قصيرة علّنا نضع اليد على ألق الزمن الجميل الذي عاشوه لأجل إبداعهم هذا.

 

الطفلة الصغيرة

كانت الفنانة التشكيلية سناء قولي طفلة صغيرة تحلم بالتلوين والرسم. قالت عن جذوة إبداعها: ظل هذا الحلم رفيق خطواتي الدائم، وما زلت حتى الآن أفرح برسومي عبر منابر النشر، وكأني تلك الطفلة الصغيرة التي تأخذها الدهشة إلى أرض الأحلام.. الفن يتحول إلى إبداع في الظروف الصعبة، وقد تحديت كل ظروفي المحيطة، من دراستي العلمية بعيداً عن الفنون حتى الظروف الصحية التي أعاني منها، لأعبر للأطفال عن حبي وشغفي، وأرسم لهم أجنحة وفراشات لنحلق معاً عبر ألواني إلى فضاءات أرحب وأجمل، فأنا مؤمنة بأن الطفل ذكي ولماح ومبدع، ولديه صدق مشاعر وبراءة وإقبال على الحياة.. تجربتي معه امتداد لطفولتي، وواجبي أن أقدم عبر فني كل ما من شأنه رفع مستوى التذوق الفني للطفل الذي يرتفع بمستوى الحضارة.. أعبر بالألوان والعناصر المبسطة لأنها هي لغة الطفل، وأستخدم الألوان القوية، خاصة المفرحة منها، وكل مرحلة من الطفولة لها اهتماماتها والموضوع المناسب لاهتمامها: الأسرة، الأم، المدرسة، الوطن، وأنا أؤمن بأن الفن سلاح لمواجهة الصعاب، والحياة بلا فن لا تعني شيء.

 

الكتابة الملتصقة

كانت البداية عند د. موفق أبو طوق، عضو جمعية أدب الأطفال في اتحاد الكتاب العرب، في مرحلة الطفولة، وبالتحديد في أيام الدراسة الابتدائية، والمحفز الأساسي كان مطالعة القصص غالباً.. تحدث عن رحلته الإبداعية حيث كان التشجيع منقطع النظير من قبل الأسرة والمدرسة والمجتمع على متابعة هذه الهواية المفيدة، وكانت القصص متوفرة في كل مكان، والمكتبات والمراكز الثقافية تغص بأعداد من الكتب والمجلات الموجهة في الأصل إلى النشء الجديد.. كل ما كان حولك يدعوك إلى المطالعة، وانغمست في هذه الهواية، ومعها ظهرت موهبة جديدة هي الكتابة.

وسألت نفسي: لماذا لا أقلد الكبار؟ لماذا لا أكون كاتباً مثلهم؟! بدأت أصدر مجلات في البيت، مجلات مدرسية، أكتبها بخط يدي، وأرسم لوحاتها بريشتي الخاصة، وبدأت أيضاً أراسل مجلات الأطفال الموجودة في تلك الأيام: “سمير”، “المغامر”، “بساط الريح”، وأحاول أن أنشر إبداعي الأدبي على صفحاتها.. كبرت، وكبرت معنا هذه الهوايات وتلك المواهب، وعندما أصبحت الكتابة صفة ملتصقة بي عاودني الحنين إلى أدب الأطفال، لأن هناك طفلاً يعيش في أعماقي مهما تقدم بي العمر، وتمادى بي الزمن! ويضيف أبو طوق: انعكست مهنتي على قصصي فكتبت المعلومات الطبية والعلمية بأسلوب القص الفني، أنسنتُ الفم واللسان والشفة والأذن والأنف، وأعضاء أخرى من الجسم، وجعلتها أبطالاً لقصصي، وشخصيات تدور حولها أحداث القصة. نشرت في العديد من المجلات العربية، وفي مقدمتها مجلة “أسامة”، وكانت أول قصة نشرتها على صفحاتها عام ١٩٧٣.. كنت وقتئذ طالباً جامعياً، وكان رئيس تحريرها الأديب الراحل سعد الله ونوس.

 

الطفلة الكبيرة

منذ ولدت د. منيرة خضر، وتعلمت القراءة والكتابة في المدرسة، وهي تسرح بخيالها، وتتلهف لقراءة قصة جديدة.. وعن اللحظة التي قررت فيها الإبداع، قالت: كنت أدخر النقود التي يعطيني إياها أفراد عائلتي، كوني البنت الصغرى والمدللة، كي أشتري قصة جديدة، ولم أكن أكتفي بقراءة القصة فحسب، بل كنت أضيف إليها تعليقات زوّدني بها خيالي السارح مع أحداث القصة. وعندما كبرت، كبُر شغفي وتعلقي بهذا العالم الكبير، والذي أبطاله أطفال صغار، وقررت أن أدوّن كل ما أشعر به، وأراه، وأسمعه، على شكل قصص قصيرة للأطفال. كان يستوقفني الطفل الباكي، والطفل المحروم، والمتسول، وينفطر قلبي عندما أرى طفلاً صغيراً يبيع أقلاماً، أو خبزاً، أو بسكويتاً، كي يحصل على حفنة متواضعة من النقود. كنت، وما زلت، أتمنى لو كان بإمكاني مساعدة كل الأطفال الذين سرقت الحياة القاسية، وظروف الحرب، براءتهم، وكبرت مهامهم ومسؤولياتهم رغم صغر أجسادهم.

وتتابع د. خضر: بدأت كتابة القصص لمجلتي “شامة” و”أسامة”، وكذلك ترجمت قصصاً للأطفال من الفرنسية إلى العربية. اتجهت أيضاً إلى إذاعة دمشق، وكتبت مئات القصص لبرنامجي “براعم الغد”، و”دراما الأطفال”، وفي كل مرة أكتب فيها قصة كانت تشترك الطفلة الموجودة في داخلي في نسج سير الأحداث وحبكتها، فتبكي مع المظلوم، وتفرح مع الناجح، وتساند الفقير، وتشد على يد الغني ليجبر خاطر الفقير المكسور، ولا أزال أسمع قصصي الإذاعية على أثير الإذاعة، وأعود طفلة صغيرة تتخيل الشخوص والأحداث أمامها، وقلبي ينبض بالفرح والسعادة عندما أرى السرور والفرح على وجه طفل صغير أعجب بما كتبت.

 

الحبيبة “أسامة” وأنا!!

للكاتب طلال حسن – من العراق – مع “مجلة أسامة” تاريخ مليء بالبهجة والأشواك والأفراح والقلق والدروس التي لا تنسى. عن هذه الرحلة، قال كاتب الأطفال: من الصدف المبهجة أن عمر علاقتي بالحبيبة “أسامة” هو بعمر ابني الفنان عمر طلال، فكلاهما ولد عام 1969. في ذلك العام، زار القائد الخالد حافظ الأسد العراق. وفي أعقاب تلك الزيارة، انهالت المجلات السورية على العراق، ومنها “أسامة”. وعلى الفور، أرسلتُ للمجلة قصة للأطفال بعنوان “الشمعة”، وبعد أسابيع قليلة ظهرت القصة على أربع صفحات ملونة، ومزينة برسوم رائعة جداً، جعلتني أمطر “أسامة” بالعديد من القصص، ومنها قصص حول موضوع له أهميته عندي، وهو موضوع القضية الفلسطينية، وحظيت وقتها باهتمام ورعاية رئيسة التحرير المبدعة، الراحلة دلال حاتم.

حُذّرت مراراً، ونصحني بعض الأصدقاء ألا ألعب بالنار، فالكتابة في سورية قد لا تحمد عقباها. مع ذلك، نُشر لي، بالإضافة إلى نصوصي في “أسامة”، كتاب في حمص بعنوان “داماكي والوحش”، وستة كتب في اتحاد الكتاب العرب. وطوال هذه الفترة التي تمتد لأكثر من أربعة عقود، لم انقطع عن التواصل مع مجلتي الحبيبة “أسامة”، ولحقني في هذا ابني الرسام عمر طلال، ويفرحني أن أرى اسمه إلى جانب اسمي، أو أسماء كتاب ينشرون في “أسامة”.

 

رواية الحكايات

تحاول الكاتبة والمترجمة كنينة دياب، حالياً، الإشراف على ورشات كتابة قصة يكتبها الأطفال المبدعون. عن رحلتها الإبداعية، قالت: ربما لأنني في طفولتي كنت مولعة برواية الحكايات لأولاد أخوتي، الذين كانت أعمارهم قريبة من عمري، ولأنه في أيامنا لم يكن أحد يهتم بأن تكتب طفلة، أو تؤلف أدباً، أو قصصاً للأطفال، فقد أهملت هذه الموهبة لدي، ولكنني كنت متفوقة في كتابة مواضيع التعبير، وعملت في جريدة “الخليج”، في قسم الترجمة وصفحة المرأة والطفل، وشجعني رئيس تحرير الصفحة أن أجرب وأكتب قصصاً للأطفال لينشرها في الصفحة، دون أن يعرف أنها هواية منذ الطفولة، وكتبت قصصاً عديدة للجريدة، ثم استدعاني مدير برامج تلفزيون دبي، وطلب مني تقديم ٩٠ قصة للأطفال للقناة.

حين رجعت إلى بلدي سورية، بدأت أكتب لمجلتي “أسامة” و”شامة”، وبعض المجلات في الوطن العربي التي تهتم بشؤون وأدب الطفل. أعمل في الترجمة والكتابة للكبار، لكن عشقي لعالم الطفولة يجعل تحيزي كبيراً لإنتاج قصص للأطفال في كل المراحل: الطفولة المبكرة، والطفولة، والناشئة، وحتى الشباب.

وتضيف: الكتابة للأطفال ورواية القصص لهم تنعش روحي، وتمدني بطاقات إيجابية سعيدة رائعة. ولدي لقاء، كل أول يوم سبت من كل شهر، في مركز ثقافي أبو رمانة بدمشق، ولدي ورشة كتابة قصة للأطفال في مركز “بيت” للتعليم المبكر في اللاذقية، أيضاً.. خالص محبتي للطفولة، ولكل من يسعى لنشر الثقافة والمحبة بين أطفال سورية.

 

“أريد حلاً مع سلمى”

رافقت د. رندا رزق الله مجلة “أسامة” منذ طفولتها، في نهاية السبعينيات والثمانينيات، وكانت أشهر مجلة للأطفال وأكثرها غنى وتنوعاً بالمعلومات. في وصفها لحالة الزمن في الإبداع، قالت دكتورة علم النفس: في زمن كنا نعاني فيه من الشح في المعرفة والاطلاع على علوم العالم، دارت الأيام حتى أصبحت مختصة ومحاضرة في العلاج النفسي، وبالتحديد في عامي 2014/ 2015، كان لي حظ رائع عبر مشاركتي في إعداد صفحة خاصة بي، بالتعاون مع إدارة مجلة “أسامة”، هي صفحة “أريد حلاً مع سلمى”، حيث تلقيت على مدار عام كامل رسائل الأطفال التي حملت أسئلة متنوعة، اجتماعية وعامة، تتناول مشكلات في الصداقات، وكيفية بناء العلاقة مع الآخرين، سواء كانوا أقرباء أو غرباء، أو زملاء، وأخرى مشكلات نفسية ذات خصوصية تتناول مشكلات كالخوف والتأتاة والتبوّل اللاإرادي والعصبية والغضب، وغيرها الكثير، وأخرى تربوية يتساءل فيها الأهالي عن أساليب التربية والخيارات المتاحة في تطوير إمكانيات أطفالهم، ومشكلات علاقة الطفل بالانترنت وألعابه وتأثيرها – السلبي أو الإيجابي – وأساليب الإفادة منه، والكثير من الأسئلة الأخرى ذات الخصوصية.. كان عملاً ممتعاً وتجربة غنية، فعندما تقدم المعلومة مباشرة من المختص، يشعر القارئ أنك تواكب مشكلاته وتفهمها وتحاول تقديم جل ما تستطيع لإيجاد حلول لها، خاصة أن مشاركتي تلك مع فريق عمل مميز كانت في أصعب سنوات الحرب في سورية، حيث عاش السوريون إحباطاً وكآبة وخوفاً وغضباً لا يمكن وصفه بالكلمات، وكانت المدارس مغلقة في كثير من الأوقات خوفاً على الطلاب.. في هذه الأجواء بالتحديد، كانت “أسامة” إحدى النوافذ التي تنشق منها الأطفال وأهاليهم بعض الإحساس بالحياة والرقي. تمنيت لو تمكنت من الاستمرار، لكن الظروف حالت دون ذلك، وأتمنى لمجلة “أسامة”، وللفريق المبدع الذي يشرف على إعدادها، منذ نشأتها إلى اليوم، حيث حافظ على السوية ذاتها رغم تغير الأشخاص. وفي علم النفس، نعلم أن العمل مع الأطفال هو الأصعب والأشد حساسية، ويتطلب عشقاً من نوع خاص كي يتمكّن المبدع من العطاء فيه.. تحياتي الحارة إلى عاشقي الطفولة في مجلة “أسامة”!!