مجلة البعث الأسبوعية

غاز شرقي المتوسط.. اللعبة الجيوسياسية والجيواستراتيجية

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

في كل يوم يرتفع منسوب التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط، وحتى الآن لم يحسم أي شيء بانتظار التوصل إلى حلول دبلوماسية عبر التفاوض القائم بين أطراف النزاع. هذا النزاع لا شك أنه سيكون مريراً لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة على بعد 200 ميل من الشواطئ، حيث تتمتع كل دولة من الدول المتشاطئة بحقوق استغلال حقولها. والدول المعنية بشكل مباشر هي اليونان وتركيا وقبرص وسورية ولبنان وفلسطين المحتلة. والمخاطر هنا ليست اقتصادية فقط، لأن اللعبة الحقيقية في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​هي لعبة جيوسياسية وجيواستراتيجية، وتشمل القوى العالمية الكبرى.

 

الجغرافيا السياسية

أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن مشروع شرقي المتوسط “East Med” تم إطلاقه في الوقت المناسب، لأن “روسيا والصين وإيران تحاول أن تطأ بأقدامها شرقاً وغرباً” – على حد تعبيره، وهو – أي المشروع – يتناسب مع الاستراتيجية الأمريكية التي تم الإعلان عنها بالحد من صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا ومنعها أخيراً، واستبدالها بالغاز الذي يتم توفيره، أو الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة.

في العام 2014، أغلقت الولايات المتحدة خط أنابيب السيل الجنوبي “South Stream” عبر البحر الأسود، والذي كان من شأنه أن يجلب الغاز الروسي إلى إيطاليا بأسعار تنافسية، وهي تحاول اليوم أن تفعل الشيء نفسه مع خط السيل التركي “Turk Stream” الذي ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى الجزء الأوروبي من تركيا. في الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة قطع طريق الحرير الجديد الذي يربط الصين بالبحر الأبيض المتوسط ​​وأوروبا. أما في الشرق الأوسط، فقد أغلقت الولايات المتحدة – بسبب الحرب – ممر الطاقة الذي كان سينقل الغاز الإيراني عبر العراق وسورية، بموجب اتفاقية عام 2011، إلى البحر الأبيض المتوسط ​​وإلى أوروبا.

استُبعدت لبنان وسورية وليبيا من الاتفاقيات المبرمة على خلفية الصراع، رغم أن جزءاً من الغاز في شرق المتوسط يخصها، بينما أعلنت الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي انضمامها إلى اتفاقيات غاز المتوسط. ومع دخول الحلف الثلاثي على خط المكاسب الاقتصادية، تم نشر عدد كبير من جنود البحرية الأمريكية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي البحر الأسود المجاور، بمهمة “الدفاع” عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

 

قبرص بين روسيا والولايات المتحدة

أمام هذا الصراع المتزايد، أصبحت قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، بين الدفع والجذب الخارجيين. استقبلت قبرص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 8 أيلول الماضي، واستغل لافروف المناسبة للتعبير عن قلق روسيا من تصرفات تركيا الخطيرة في شرق البحر المتوسط والدعوة إلى الحوار.

وتتمتع روسيا وقبرص بعلاقات دافئة بشكل خاص على مدى عقود لأسباب عديدة، فقد دعمت روسيا استقلال القبارصة عن بريطانيا، وكان الحزب الشيوعي القبرصي صانع الملوك على مدى عقود، وكان سلف الرئيس القبرصي الحالي، نيكوس أناستاسيادس، أول رئيس شيوعي لقبرص، والرئيس الشيوعي الوحيد للاتحاد الأوروبي.

في عام 2015، وقع أناستاسيادس ونظيره الروسي فلاديمير بوتين اتفاقية لمنح السفن البحرية الروسية حق الوصول إلى الموانئ القبرصية للصيانة والتزود بالوقود. وبالطبع هذه الاتفاقية أزعجت إدارة ترامب، على الرغم من أنها لا تريد استخدام الجزيرة لتأكيد القوة البحرية الأمريكية في هذه المنطقة، ولكنها لا تريد أن تفعل روسيا ذلك أيضاً. وما أثار استياء واشنطن أن موسكو اكتسبت نفوذاً في الشرق الاوسط من خلال لعب دور رئيسي في دول “الثورات الملونة”، والدفاع عن الدولة السورية تحديداً، ومنع الإطاحة بالحكومة، وفرض وقف إطلاق النار في معظم الأراضي السورية.

في كانون الأول الماضي، تبنى الكونغرس الأمريكي قانوناً يوافق على الرفع الجزئي لمدة عام واحد للحظر الأمريكي على بيع المعدات العسكرية غير الفتاكة إلى قبرص، مقابل التخلي عن الصفقة التي تمنح السفن البحرية الروسية الحق بالوصول إلى الموانئ القبرصية. جادل المشرعون الأمريكيون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بأن السفن الروسية لا تحتاج إلى الاتصال مع الموانئ القبرصية لأن لديها قاعدة بحرية في طرطوس، في سورية المجاورة.

حاول وزير الخارجية القبرصي نيكوس كريستودوليدس الالتفاف على التشريع الأمريكي بالقول إن السياسة القبرصية بشأن هذه القضية لم تتغير، وأنه سيتم السماح للسفن الروسية بالرسو لـ “أسباب إنسانية”.

 

عسكرة الولايات المتحدة لشرق المتوسط

عشية الانتخابات الأمريكية، في تشرين الثاني القادم، أدركت إدارة ترامب أن حرمان قبرص من المعدات العسكرية الأمريكية يمكن أن يؤدي إلى تنفير اللوبي اليوناني المؤثر في الولايات المتحدة، والذي كان يضغط من أجل رفع الحظر الأمريكي الذي يعود إلى العام 1987. كما أن عدد المواطنين الأمريكيين من أصل يوناني يبلغ 1.4 مليوناً، ويصوتون في فلوريدا وبنسلفانيا وميتشيغان، الولايات المتأرجحة التي يحتاج ترامب للفوز بها، وتمثل مصالحهم السياسية مجموعات ضغط تعمل تحت مظلة المعهد اليوناني الأمريكي، الذي يروج لسياسات مواتية لليونان وقبرص. وغالباً ما يعمل المعهد بالتنسيق مع اللوبي الصهيوني، وهذا مهم في هذا الوقت، لأن قبرص واليونان وحدتا قواهما لمواجهة طموحات تركيا التوسعية في شرق البحر المتوسط.

وتشير التقديرات إلى أن هناك حوالي 500 ألف أمريكي من أصل تركي لا يمتلكون القوة نفسها في ورقة الاقتراع. ومع ذلك، شكلت أنقرة على مر السنين لوبياً سياسياً مؤثراً في واشنطن، وأعرب ترامب أكثر من مرة عن إعجابه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يسجن الصحفيين والمعارضين السياسيين والمنتقدين.

بعد 48 ساعة من مغادرة لافروف، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الحكومة القبرصية أنه يعتزم التوقف لمدة ثلاث ساعات بعد حضوره إطلاق محادثات طالبان والحكومة الأفغانية في الدوحة. بعد محادثات مع أناستاسيادس وكريستودوليدس، حثّ بومبيو تركيا على وقف الأنشطة التي تزيد التوترات في شرق البحر المتوسط، ودعا جميع الأطراف المعنية لإجراء محادثات، وأعرب عن قلقه العميق إزاء مواصلة تركيا نشر سفن المسح والحفر وسفن الحراسة البحرية المسلحة في المياه القبرصية واليونانية، وذكّر بأن لقبرص الحق باستغلال مواردها الطبيعية البحرية في منطقتها الاقتصادية الخاصة.

صحيح أن ترامب تحدث إلى كل من أردوغان ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بشأن تصاعد التوترات في شرق البحر المتوسط بهدف تعزيز الحوار، لكن ترامب معجب كثيراً بأردوغان، ولم يمنعه من غزو واحتلال مساحات شاسعة من الأراضي السورية على طول الحدود مع تركيا، ومنحه الإذن بالاستيلاء على مناطق محددة طردت منها القوات التركية وحلفاؤها من الإرهابيين أكثر من 250 ألف مواطن سوري.

كما امتنعت الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات ضد تركيا لتدخلها في الحرب الليبية إلى جانب حكومة السراج، والتي كان من أهم نتائجها إعلان طرابلس من جانب واحد عن منطقة اقتصادية حصرية واسعة تمتد عبر البحر، وتلتقي بالمنطقة المعلنة من جانب تركيا، وتشطر شرق البحر المتوسط، وقد أقسم أردوغان أن يكرس هذا الأمر الواقع الذي لم يعترف به أحد سوى أنقرة وطرابلس.

إذا سمح لهذا الوضع بالبقاء، فإن المناطق التركية الليبية ستقطع مصر وفلسطين وقبرص ولبنان إلى الشرق من البلدان في الغرب، وبالتالي ستمنع أيضاً بناء خط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط المصمم لنقل الغاز الطبيعي إلى إيطاليا، ومنع قبرص واليونان من الحفر داخل مياههما الإقليمية. لذلك بسبب أطماع أردوغان، وإعجاب ترامب به، من غير المرجح أن تهدأ التوترات في المستقبل المنظور، على أمل ألا يبدأ أردوغان حرباً.