مجلة البعث الأسبوعية

في وطنِنا أطفالٌ موهوبون

“البعث الأسبوعية” قحطان بيرقدار

 نعم، في وطننا أطفالٌ موهوبون، ما في ذلك من ريب، وهم من سيقودون في المستقبل مسيرة التطوّر والبناء على جميع الأصعدة إذا ما تمّ احتضانهم ورعايتهم على نحوٍ جيّد. ويتميز هؤلاء الأطفال بصفاتٍ غير اعتيادية وبمقدراتٍ تُمكّنهم من تنفيذ أعمالٍ تتصل بمجالات عدّة في الحياة على نحوٍ لافت، فيُحقّقون نجاحاً مميزاً، ونرى أحدهم يستطيع أن يُنجز، في وقتٍ قصير، وعلى نحوٍ مُتقَن، ما يستغرق الطفل العاديّ فيه أوقاتاً طويلةً، لذلك فإن واجبنا نحوهم ينبغي أن يكون مُركَّزاً على رعايتهم والاهتمام بهم والأخذ بأيديهم؛ وهذا ليس مسؤولية الأفراد والأُسَر فحسب، بل مسؤوليّة المجتمع كُلّه. يقول عالم النفس الأمريكيّ جون واطسون: “أعطني اثني عشر طفلاً أصحّاء، سليمي التكوين، وهيّئ لي الظروف المناسبة لعالمي الخاص لتربيتهم، وسأضمن لك تدريبَ أيٍّ منهم، بعد اختياره بشكلٍ عشوائيّ، ليصبح اختصاصياً في أيّ مجالٍ، ليصبح طبيباً، أو محامياً، أو رسّاماً، أو تاجراً..”.

 

كيفَ نكتشفُ أطفالَنا الموهوبين؟

مواهب الأطفال كثيرةٌ جداً، كالغناء والعزف، والرسم والخط، والتمثيل والخطابة، والكتابة الأدبية، والرياضة، وبعض الأعمال اليدوية الحرفية، والأعمال التي تتصل بعالم التكنولوجيا والاتصالات والإلكترونيات، والمهارات الحسابيّة، وغيرها. ولاكتشاف الطفل الموهوب، ما علينا إلّا أن نُدقّقَ وننتبه ونُركِّزَ ونُلاحظ: نلاحظه وهو يلعب مع أقرانه، ونلاحظه وهو في المدرسة كيف يتعاطى مع الدروس والواجبات والتلاميذ والمُدرّسين، ونلاحظه وهو يقوم بأيّ نشاطٍ من أنشطته، وسنكتشف، مع مرور الوقت، المواهب والإمكانات التي لديه. على سبيل المثال، نستطيع اكتشاف الطفل الموهوب وهو يتعامل مع مشكلةٍ تَعترضُهُ، فالطفل يواجه في حياته مشكلاتٍ مُعيّنة بين حينٍ وآخر، ويجد نفسه أحياناً في مواقف صعبة، وعليه أن يخرج منها بطريقةٍ ما، وممّا لا ريب فيه أن الطفل الموهوب يستطيع إيجاد الحلول والمخارج بأساليب ذكيّة وبسرعة وحيويّة.

علينا أن نلاحظ ميول الطفل، فهل يميل إلى الرسم، مثلاً، أو إلى الموسيقا؟ هل يميل إلى الكتابة، أو إلى إصلاح بعض الأجهزة الكهربائية الصغيرة؟ كلّ ذلك يبدو لنا عبرَ تصرُّفاته بين حينٍ وآخر، لذلك حين نلاحظ شيئاً من ذلك يمكننا أن نضع بين يدي الطفل ما يساعده على تنمية الاتجاه الذي يميل إليه؛ فإن وجدناهُ ميّالاً إلى الرسم أحضرنا له ألواناً ودفاترَ رسم، وإن وجدناه ميّالاً إلى الموسيقا أحضرنا له إحدى الآلات الموسيقية.. وهكذا! ثم نتابعُ رُدودَ أفعاله وأداءَه لنعرف بعد ذلك كيف سنتعامل معه. كذلك علينا أن نراقبه في المدرسة، فقد يكون مُتفوّقاً في مادّة دون أُخرى، وهذا يعطينا مُؤشّراً إلى وجود موهبةٍ ما لديه؛ فعلى سبيل المثال، قد يكون متفوّقاً في الرياضيات، فمن الجدير بنا في هذه الحالة تشجيعه على الاستمرار في هذا التفوُّق، وعلى رفده بمراجع وكُتبٍ تفيده وتُطوّره في هذا المجال من خارج المنهاج المدرسيّ.

اللعبُ مُهـمٌّ جدّاً للطفل ولنُموّه العقليّ والسلوكيّ، وقد تعطينا الألعاب التي يُفضّلها الطفل دلالةً على وجود موهبةٍ لديه في مجال مُعيّن، ومن خلال علاقات الطفل مع محيطه – كإخوته وأصدقائه في المدرسة، مثلاً – يمكن أن نلاحظ وجود موهبةٍ ما لديه، في الحوار مثلاً، ومحاولته الإقناع، أو في القيادة والتخطيط، وما إلى ذلك. وفي كُتب علم نفس الطفل وسيكولوجيا الإبداع، لدى الأطفال ثمّة كثيرٌ من المُؤشّرات والدلائل والصفات التي نستطيع – بالاطلاع عليها – أن نكتشف طفلَنا الموهوب، ولا مجالَ هنا للخوض فيها بالتفصيل.

 

على مَنْ تقعُ مسؤوليّةُ رعاية مواهب الأطفال؟

أمّا مسؤولية رعاية مواهب الأطفال وتنميتها، فتقع، بدايةً، على الأسرة التي ينبغي أن تكون الحاضنة الأولى لهذه المواهب، وعليها تشجيع أطفالها الموهوبين، ومدّ يد العون إليهم ضمن الإمكانات المتاحة، والإصغاء إليهم، وتسجيلهم في المراكز والنوادي المختصة – إن أمكن – ورفدهم بالأدوات اللازمة لتطوير مواهبهم؛ وقبلَ كلِّ ذلك أن تُعطيَهُم الثقة، فالطفل الفاقد للثقة بنفسه سيبتعد عن تجريب أعمالٍ جديدة، أو مُعقّدة، لأنّهُ سيخشى الإخفاقَ وتخييبَ أملِ مَنْ حولَهُ فيه. كما تلعب المدرسة دوراً كبيراً في رعاية الأطفال الموهوبين والمُتفوّقين عبر إقامة المسابقات وورشات العمل والدورات التدريبية في مجالات شتّى، وهنا أستحضرُ ما قاله عالم النفس والفيلسوف السويسري جان بياجيه عن التعليم: “التعليم، بالنسبة إلى معظم الناس، يعني محاولة أخذ الطفل ليبدو كأنّهُ شخصٌ عاديّ في مجتمعه، لكنْ، بالنسبة إليّ، التعليم يعني صنع المبدعين.. يجب علينا أن نصنع المخترعين والمبتكرين وغير المُمْتَثِلين”.

إنّ مسؤولية رعاية مواهب الأطفال وتنميتها تقعُ على عاتق المجتمع كاملاً، والدولة بكل مؤسساتها، كوزارة الثقافة بمديرياتها ومراكزها الثقافية ومسابقاتها، وكوزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً، وغيرهما؛ وينبغي أن يندرج ذلك ضمن خطّة وطنية شاملة تخصُّ الطفل، ليستطيع مجتمعنا أن يكتشف أطفاله الموهوبين والمبدعين ويرعاهم، في شتى المجالات، وهذا سينعكس على الوطن إيجاباً في المستقبل، وسيُسْهِمُ في بنائه وتطوُّره وازدهاره وترسيخ حضارته.

 

بين الواقع والطموح

ولدى تأمُّلنا في مدى رعاية الدولة للأطفال الموهوبين في وطننا، نلاحظ مبادراتٍ عدّة في أكثر من مجال، كالمسابقات السنوية الفنية والأدبية التي تقيمها مديرية ثقافة الطفل في وزارة الثقافة كلّ عام، وكدورات وورشات الرسم والخط العربي والموسيقا التي تقيمها المراكز الثقافية، وكذلك مديريّة منشورات الطفل، في الهيئة العامة السورية للكتاب، التي تُصدِرُ، ضمن سلاسلها، سلسلةَ أطفال مبدعون، وهي عبارة عن كتاب يتضمّن قصّةً يكتبها طفل، ويرسمها طفل آخر، إضافةً إلى مجلّتَيْ أسامة وشامة اللتين تُخصّصان عدداً من صفحاتهما كلَّ شهر لإبداعات الأطفال في الكتابة والرسم، وكالأنشطة التي يقيمها فرع دمشق لاتحاد الكُتّاب العرب التي يكون أبطالها الأطفال الموهوبون، والدورات والمسابقات التي تقيمها الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، والأنشطة التي تقيمها منظمة طلائع البعث، وغيرها. وعلى الرغم من كلّ ذلك، نرى أننا لا نزال مُقصّرين في ما يخصُّ دعم مواهب الأطفال وتطويرها، وأنّ جهودَنا في هذا المجال قليلةٌ ومتناثرةٌ ولا يربطها رابطٌ، ولا تنهض على أُسسٍ منهجيةٍ مدروسة، وأننا لا نزال نفتقر إلى خطّةٍ وطنية شاملة جامعة في سبيل ذلك، وهو ما نأمل أن يتحقّق في تالي الأيام لأنّ أطفالنا يمتلكون طاقات كبيرة، وهم يستحقّون منا الكثير الكثير.