ثقافةصحيفة البعث

فتى الشاشة محمود ياسين في رحلته الأخيرة

حين كانت الطفولة البكر للإبداع تتلمس ملامحها في الأعمال الخالدة كان لابد من تضافر وشائج نجاحها عبر اعتماد المبدعين على كتف بعضهم البعض، هذا الاستهلال لنقول أن الراحل العملاق مصطفى العقاد عندما بحث عن راوي أسطورته الخالدة فيلم “الرسالة” لم يكن ليتردد هنيهة من زمن في اختيار العملاق الآخر محمود ياسين، الذي كان يروي لنا أحداث الفيلم كما تروي لنا الجدات والأجداد وأهلنا الذين ننتمي لهم تلك الحكاية الأسطورية والسير الشعبية وسيرة النبي، بين محمود ياسين وذائقتنا البصرية والسمعية والفنية تاريخ نبيل من الحب والدفء.

“أفواه وأرانب”

أصيب الفنان محمود ياسين بمرض الزهايمر قبل 8 سنوات، بعد آخر فيلم له “جدو حبيبي” مع الفنانة بشرى عام 2012، وكان مرشحاً لمشاركة النجم عادل إمام في مسلسل “صاحب السعادة” عام 2014، إلا أن حالته الصحية لم تسمح له باستكمال التصوير، حيث لم يعد قادراً على حفظ النص، والوقوف أمام الكاميرا لاسترجاع الكلمات، وهو ما يعني استحالة تقديم العمل بوجوده، ما تسبب في إنهاء التعاقد معه والحفاظ على قيمة النجم الكبير أمام محبيه.

بدأ محمود ياسين مشواره على خشبة المسرح القومي المصري عقب نكسة حزيران 1967، بمسرحية “الحلم” مع المخرج عبد الرحيم الزرقاني، قبل أن يخطو أولى خطواته في السينما بأدوار ثانوية عام 1968 في فيلمي “الرجل الذي فقد ظله”، و”القضية 86″ ثم فيلمي”دخان الجريمة” و”حكاية من بلدنا”. قدم ياسين بعد مسرحية “الحلم” أكثر من 20 مسرحية أبرزها: “حلاوة زمان” و”ليلى والمجنون” و”عودة الغائب” و”وا قدساه” و”الخديوي”.

في عام 1970 شارك بدور ثانوي أيضاً مع الفنانة شادية في فيلم “شيء من الخوف” ليحقق معها انطلاقة حقيقية في رائعة “نحن لا نزرع الشوك” بعد أن اكتشفه المخرج حسين كمال. وفي العام نفسه، عادت الفنانة فاتن حمامة إلى السينما بعد فترة غياب وقد اصطحبت معها محمود ياسين كوجه جديد يفيض وسامة ودماثة ليشاركها بطولة فيلمها “الخيط الرفيع” عن قصة إحسان عبد القدوس، وتشاركا فيلمين آخرين هما “حبيبتي” 1974، و”أفواه وأرانب” 1977، وسط انهمار الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية والإذاعية على هذا النجم الصاعد، فمن منا يمكن أن ينسى رائعة النجمين الكبيرين في “أفواه وأرانب” ذلك العمل الذي انتصر للحب الذي لا يعرف غنياً أو فقيراً في مقابل الحسابات الطبقية التي يعاني منها مجتمعنا إلى يومنا هذا، وبتلك النهاية السعيدة اختتم الفيلم بزواج محمود بك الثري ونعمة الفتاة الفقيرة.

لم يهمل محمود ياسين الأعمال التلفزيونية، فقدم حوالي 65 مسلسلاً حقق معظمها نجاحاً كبيراً بدءاً من “المطاردة” عام 1969، مروراً بـ”غداً تتفتح الزهور” الذي أهدى فيه الأطفال أغنية بصوته و”جمال الدين الأفغاني” و”محمد رسول الله” 1984، و”العز بن عبد السلام” و”أيام المنيرة”، وواصل نجوميته في “الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان” و”خلف الأبواب المغلقة” وصولاً إلى “سوق العصر” و”العصيان” و”ثورة الحريم” و”ماما في القسم”، وهو آخر مسلسل قدمه مع سميرة أحمد في 2010.

سفير النوايا الحسنة

خلال مسيرته الفنية حصل محمود ياسين على أكثر من 50 جائزة منها جائزة الدولة عن أفلامه الحربية 1975، وجائزة مهرجان الإسماعيلية 1980، وفي العام نفسه حصل على جائزة مهرجان طشقند، وجائزة السينما العربية في أميركا وكندا 1984 ومهرجان الجزائر عام 1988، كما حصل على جائزة أحسن ممثل في مهرجان التلفزيون لعامي 2001 و2002.

وبعد أكثر من 140 فيلماً وحوالي 65 مسلسلاً تلفزيونياً و12 مسرحية و14 مسلسلاً إذاعياً، يقول محمود ياسين في أحد حواراته: إنه يتوقف أمام ثلاث شخصيات في ثلاثة مسلسلات أثرت فيه: حامد الغرباوي رمز الحكمة في “العصيان”، وأبو حنيفة رمز التقوى في “الإمام أبو حنيفة النعمان”، وحلمي عسكر رمز الشر في “سوق العصر”.

وفي 2005 تم اختياره من قبل الأمم المتحدة سفيراً للنوايا الحسنة لمكافحة الفقر والجوع، وفي 2015 تم تكريمه في مهرجان الإسكندرية لسينما حوض البحر الأبيض المتوسط.

فتى الشاشة

لم يكن للفنان محمود ياسين مثيل في صوته المتميز وحضوره الطاغي وأدائه المتنوع بين الأدوار السياسية والاجتماعية والدرامية والكوميدية، مما جعله من أهم النجوم في تاريخ السينما العربية، والأعلى أجراً بين أبناء جيله، بسبب الرومانسية التي تميز بها لأكثر من عقدين من الزمان.

ورقة جديدة من أوراق الفن العربي سقطت، برحيل الفنان المصري محمود ياسين في الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الماضي عن عمر ناهز الـ79، وعبارات الوداع الأخير لمحمود ياسين تحمل من غصات الفقد الكثير: “وداعاً صاحب الإطلالة الفنية البهية.. وداعاً يا صاحب الصوت الحنون الفصيح الملهم.. وداعاً فتى الشاشة الأول وهرم من أهرام الفن والثقافة في مصر والوطن العربي، ونحن نقولها نتذكر أنك كنت من أجمل من حكا لنا الحكاية التي نحب في فيلم الرسالة، ورسالتنا كلنا الآن ورسالة محبيك أن ارقد بسلام وحب”.

جُمان بركات