الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عذراً أيتها الشمس المشرقة؟!

د. نهلة عيسى

لدي غضب من التعريفات، والاصطلاحات، والمقاييس، والمعايير، والنمط، وأريد أن أعرف من قال “إن الأشياء في الواقع هي كما نراها نحن عليها”، متجاهلين أن رؤيتنا للأشياء لا علاقة لها بطبائع الأشياء، بل بسنوات طويلة من العيش في أقفاص التربية، وتحت ركام العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والتجارب الحياتية التي تؤطر رؤانا، وتجعل البصيرة عبدة للبصر، لذلك عذراً أيتها الشمس المشرقة، نحن لا ننظر لكي نرى، بل نرى ما نريد أن نرى!

لدي غضب ممن هم موقنون أن واحداً زائد واحد يساوي اثنين، مع أنهما في الحقيقة يمكن أن يساويا عشرة، أو ألفاً، أو ملياراً أو حتى صفراً، لأن المسألة لا علاقة لها بالاثنين، بل بتداعيات تزاوجهما، فآدم وحواء اثنان صنعا عالماً، وابنهما قابيل قتل نصف البشرية بمقاييس ذاك الزمان، دفاعاً عن واحدة ليصبحا اثنين، ولذلك مرة أخرى عذراً أيتها الشمس المشرقة، الزيادة، أو سمها “البحث عن وهم الاكتمال”، ثمنها مغادرة الجنة، والبكارة ليست طهارة!

لدي غضب، لأنني في حالة سهر يشبه الأزل، ونوم عزيز المنال وسريع الضجر، وعشرات الهواتف كل يوم، متواصلة، لحوحة، تحوّل فضائي السمعي إلى ساحة حرب، تسألني عن ضوء النهار، ومتى سيأتي الغد! ناهيك عن أنني كلما وقعت ورقة، أو طلبت ورقة في مكاتب هذا الوطن الحزين، أواجه بالسؤال: أين مقر الإقامة الدائمة؟! فأجيب والسخرية صديق: لا أستطيع التحديد لأنني أغفو في جنيف وأصحو في الـ “86”!!

“مقر الإقامة الدائمة” عبارة إشكالية تستدعي الابتسام، ومنظر الطوابير يفترس، بعد القلب، الليل والنهار، والقمر والشمس شاشتان تركض فيهما مرئيات السنوات العشر المروعة، والرأس ميدان عزاء ينهض فيه كل يوم من قبور النسيان أحباؤنا الذين رحلوا ليتابعوا سرد حكاياتهم التي لم تكتمل، لأن أحلامهم ما زالت كاملة، لكن العمر لم يكتمل! ينهضون في رؤوسنا كالمطارق، من وسط الدمار ورائحة الموت والخراب، ليسألوا عن قمر لم يكن متسخاً، ولم يكن قرصاً من الدم، بل كان مقر إقامة حبيباتهم، وعن ابتسامات لم تكن شاحبة، بل كانت فناراً يضيء ليل الوطن، وعن حكايات وتراتيل جدات، وجرائد ونشرات أخبار الآباء “الطقوسية”، وعن ذاك النكد الجميل في وجوه أمهات يقضين نصف العمر يتذمرن من المطابخ، ويسارعن في دخولها لصنع طبق بامية لأجل عيون الصغير قبل الكبير.

ينهض الراحلون، يتجولون في الذاكرة مثل سكين، ويسألون، وهم الموتى، عن حياتنا: أين النور؟ أين فلان؟ وما خطب الشوارع والجدران؟ ولماذا وجوهنا بائسة لامبالية، كرغيف الشعير؟ ونخشى وربما نخجل، أو ربما نخاف عليهم (رغم الموت) من الاكتئاب، أن نجيبهم: إننا نموت بالتقسيط، وإن بؤسنا صار لقاحنا ضد الموت، والموت صار لقاحنا ضد الخوف، وصار صعباً علينا التفريق بين الذين يريدون الإصلاح، والذين يبغون الهدم، خاصة أن كثراً منا لا يستطيعون الصبر على قراءة الألوان الرمادية.

نخجل أن نجيب، وترحل من فمنا الكلمات، وآخر مظهر من مظاهر الحضارة (الكهرباء) يلفظ أنفاسه الأخيرة على كتف الندرة والقلة، وها نحن نعود عصوراً عديدة إلى الوراء، لتخط واحدة مثلي، حياتها كلها عين وقلم، سطورها على ضوء قنديل شحيح، وتخشى أن تعود بالعصور إلى ماوراء الوراء، لتصبح الأبجدية (من جديد) حلماً يحتاج إلى اكتشاف أو اختراع!

نخجل، أو نخشى، أن نجيب عن تساؤلات الأحباء المتجولين في رؤوسنا بلا جواز سفر، وذاكرتنا مقر إقامتهم الدائم، نخجل أن نجيبهم، بل ربما لا نريد أن نجيب، لأننا نرى فوق قبورهم نبتة روتها دماؤهم، تشق طريقها في الظلام سراً (مع الاعتذار للشمس المشرقة)، وعلى جذورها مدون بخط أحمر عريض: “مقر الإقامة الدائم” هو.. الوطن، رغم القلة والندرة.