ثقافةصحيفة البعث

الأشياء الجميلة تموت من حولنا.. هل فقدنا الذائقة الجمالية؟

كثيرة هي الأشياء الجميلة من حولنا، لكننا بتنا لا نتأملها جيداً ونكاد لا نشعر بوجودها أو نكترث بها.. وحده الأمل يجعلنا على قيد الحياة، لعلّ القادم أجمل، يعيد لنا حكايات الزمن السوري الجميل.

تبدو الحالة طبيعيّة، فهي نتاج ظروف صعبة فعلت فعلها بالسوريين، فعشر سنوات من الحرب المدمّرة كفيلة بأن تترك آثارها المؤلمة على أدق تفاصيل حياتنا، دمار، وخراب، أحبطنا وجعل الحزن يلفّنا من كل اتجاه!.

انكسار الجمال

للأسف، حتى الأحلام البسيطة تلاشت واضمحلت معها الطموحات وانكمشت إلى حدّ خرم الإبرة، والمحزن أكثر أن تأثير الظروف الصعبة التي نعيشها لم يتوقف عند الجانب الاقتصادي والخدمي وغيره، بل هناك اليوم شعور عام بالانزعاج من السلوكيات السلبية التي بدأت تنتشر داخل الأسرة، وفي المدرسة والجامعة وبيئة العمل وحتى في الشارع، لدرجة تكسّرت فيها الذائقة الجمالية للأشياء الحلوة من حولنا، ليحلّ محلها الفساد والفوضى والطمع والجشع وموت الضمير. وما زاد الطين بلّة هو ازدياد الأثر السلبي للتكنولوجيا التي جعلت المجتمع يعيش في عزلة من خلال الإدمان على استخدام الأجهزة الذكية، والعيش في عالم افتراضي باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، التي ليس لها من اسمها نصيب بعد الشرخ الذي أحدثته داخل كلّ أسرة، بل وصل الضرر إلى التأثير الواضح على القيم الجمالية في المجتمع.

ثمّة سؤال يمكن طرحه هنا: كيف نعيد لأنفسنا الإحساس والشعور والتمتّع بما هو جميل من حولنا؟!.

الجمال سيُنقذ العالم

ترى د. بشرى عباس المختصة بعلم الجمال في جامعة دمشق أن التربية الجمالية الهادفة إلى التطوّر المنسجم المتكامل للإنسان تمثّل أعلى أهداف الوجود الإنساني والتطور الاجتماعي، إلا أنه –من وجهة نظرها- لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن تربية الإنسان الجمالية مهمّة ملقاة على عاتق المستقبل البعيد، لقد غدت مهمّة راهنة. ولا نزال نجد اليوم –تقول عباس- تصورات يعتقد أصحابها أن التقدّم الاجتماعي والانسجام بالحياة لا يمكن أن يُشيّد إلا بأناس جدد تماماً، أناس أتيح لهم امتلاك تربية جمالية رفيعة، فإذا نجحنا في تربية أناس أنقياء، أناس يعشقون الجمال وينفرون من التشوّه، فإننا نستطيع بواسطتهم تحقيق حلم الانسجام.

وتوضّح أستاذة علم الجمال أن تطوّر الحياة والتكنيك المعاصر فرضا على الإنسان اليوم تطوير إمكانياته العلمية فقط وبصورة مبكرة، وتحويل الإنسان إلى كائن عقلاني بارد القلب وإلى مكنة عاقلة حيّة: “نحن نعرف اليوم أن المدرسة تنتزع الطفل بقسوة من عالم اللعب والخلق الفني وتقذفه في جليد الحسابات والعمليات المنطقية المجردة”.

روح الانتفاخ!

هذه العقلانية الباردة الجانبية –حسب د. عباس- ولّدت لدى قسم من الشباب روح الانتفاخ مع كل ما يرافق ذلك من نتائج ضارة، مثل الاستهانة بأشكال الحياة العاطفية والانفعالية، والاستهتار بالفن الذي يشرف على الموت في عالم العقول الإلكترونية والفيزياء الذرية والملاحة الكونية: “الانتفاخ يعني نمو جانب على حساب آخر كنمو العقل على حساب الحساسية والعاطفة ليتطوّر بشكل غير متوازن نفسياً جانب على حساب آخر، حيث يهيمن العقل بل ويقمع الحساسية والعاطفة الحارّة، وهذا فعلاً يشوّه الحضارة اليوم.. حضارة النفع والربح”، وتضيف: هذا الاتجاه إلى عقلنة كل شيء قضى على مختلف جوانب النشاط الإنساني لحساب الجانب العلمي الجاف، بل يسعى إلى عقلنة الفن وتجريده من المحتوى الانفعالي وتهيئة ظروف تلاشيه، مشيرة إلى أن النزعة العقلية التي لعبت دوراً إيجابياً في القرن الثامن عشر تهدّد الآن بتطورها الجانبي المتطرف تكامل الإنسان وشموليته المتنوّعة الخصبة وبالتالي إنسانيته.

وترى عباس أن إيقاف هذا التطوّر المؤذي اللاإنساني هو مهمّة الإنسانية المعاصرة: “من هنا تأخذ التربية الجمالية أهميتها القصوى لتعني عدم السماح بأن تتغلّب ثقافة العقل والتكنيك وحدها على ثقافة العاطفة والشعور والإنسان، فخطر الحضارة التكنيكية التي تجعل من الربح أو التقدّم التكنيكي وحده هدفاً أعلى يدعونا لإبراز الحاجة الملحة للتربية الجمالية الفنية”.

أيها “الجمال” لا تترك ديارنا حزينة، فسورية الجميلة موطنك بسهولها وجبالها وبحرها وناسها الذين يعشقون كل شيء جميل.

غسان فطوم