ثقافةصحيفة البعث

الكتابة.. صوت أزمنة أخرى

أحمد علي هلال

ما الذي تريده الكتابة منا؟! لعل السؤال هنا استدراك لماهية الكتابة بوصفها أداة وغاية بآن معاً، وعلى الأرجح أن ما تستطيعه الكتابة في مجازاتها الأخرى هو الانشغال بزمن آخر ليس خارج المكان، بل بسكنى المكان ذاته، كما يذهب الشعر في أسئلته الكبرى وهو يتجاوز راهنه، صاعداً إلى أناشيده العالية، وكما شأن السرديات الأخرى التي- تتوسل- أن يتصادى فيها الحضور المستحيل بوساطة الصورة، إذ إن الصورة هي مهماز البقاء، سواء عبرت الآداب والفنون والمحكيات لتنشئ أكوانها، ويمكن للسؤال أيضاً أن يأخذنا إلى العلاقة مع الذات المبدعة شرط أن يكون إبداعها أصيلاً لا ارتجالاً بحكم اللحظة أو شبهة التقاطها، وعليه فإن مساءلة الإبداع بكل وجوهه الآن تبقى حقيقة مؤجلة لأنها رهن صيرورات كثيفة، عُبّر عنها بالتراكم لتنتج بعد وقت معلوم نوعها.

ولم يعد من المجدي القول- هنا- بأن الرواية وحدها ديوان العرب المعاصر، بل تكاد جملة الفنون أن تشكّل دواوينها الأخرى، بموازاة ثيمات الفقد والخسارات، وأسئلة الموت الذي حايث أوقاتنا العصيبة وأصبح اسمها الحركي، فالبحث عن العلامة الفارقة في هذه اليوميات، أي الفرح، ماانفك يرقى لدرجة الأسطورة، الفرح صناعة أيضاً، وموهبة فريدة تماماً كالأمل الذي تتنكبه ماورائيات السطور، وتجترح اللغة له المواعيد الفاتنة، في زمن مضى كانت عبارة عميد الأدب العربي طه حسين أكثر مواساة لهذا القلق النبيل: (الكثير من الألم والقليل من الأمل)، ودلالة الكثرة والقلة هي سياق مفتوح للضديات التي باتت تتحكم بحيواتنا على نحو مثير حدّ جعل الحياة مغامرة بذاتها، أي عيشها والتنفس فيها، وكيف إذا كان الحال كتابتها على نحو يجعلها مستمرة بفطرتها الأصيلة لا بالنزوع للشر أو تنكب الخذلان!.

الأدب خطاب والكتابة أسلوب حياة، ثمة ما يحاكي جملة ديكارت: (أنا أشعر بالألم إذاً أنا موجود)، لكنه الألم المحرّض والباعث الخفي على إشعال قناديل الضوء لتعلو النهارات على تسارعها، وتصبح عيناً للحكايات التي نحبها ونألفها كما يألفها القلب، ويصبح القلب ميقاتها والتماع فضيلتها، لا يرشح الحزن إلا من ذوات صافية لامعة ببلور دهشتها، لأنها تشتق من الحياة ما يعينها على تشكيل المجاز الآسر: أنا أحيا وكم تصادت هذه العبارة/ المأثرة، في أعمال روائية بعينها من ليلى بعلبكي إلى هدى بركات إلى فن السينما وروائعها، وبالمقابل كم تشق هذه العبارة على صنّاع الدراما الذين حملوا مشاهديهم على المشي على خيط رفيع من أجل التوازن والمشي بحذر ودقة خشية السقوط، إذاً من جديد، ما الذي تريده الكتابة منا؟ وهي الضمير والرائز والأبعاد الخفية، ليست الإجابة سوى محض سؤال لامع يتعدّى جسارة الكتابة إلى استحقاقها، بوصفها استحقاق حياة لا استدعاء للموت وفصول أحزانه.. الكتابة مُتطلّبة، لكنها لا تستقيم إلا بالتوريات والإيحاء والإبحار في الخيال، ليس مواساة لواقع بعينه، بقدر ما هي- الكتابة- كائن نحسن تربيته إن أردنا بالأمل، والأمل وحده.