مجلة البعث الأسبوعية

حتى لا تضيع من الذاكرة.. الضيعة في جبال الساحل السوري

“البعث الأسبوعية” ــ عُلا أحمد

هنا حكاية أناس محددين على هذه الأرض، حيث كادت تفاصيل كثيرة من حياتهم ومعاشهم أن تنسى، أو تمحى من ذاكرة الأجيال، وأن تفقد الكثير من التفاصيل الحياتية فطريتها وعذريتها بفعل كثير من العوامل والمتغيرات الداخلية والتدخلية، بطريقة فيها البعض من الصح والكثير من الخطأ، بعض من الصحي وكثير من المرضي. ونتيجة لتلك العوامل أراد د. نزار إبراهيم – في محاولة فضّل أن يسميها “حكاية” لا يحاول فيها أن يقدم تأريخاً بالمعنى المدرسي أو الأكاديمي – أن يسرد تاريخ الضيعة في زمن القرن التاسع عشر، ويروي تفاصيل حياة ونمط عيش ومعيشة أناس في مكان محدد، وزمان معروف، بالتفاصيل، فيصف الهيكل الاجتماعي، والترتيب الاقتصادي لأبناء الضيع في جبال الساحل السوري، فجاءت هذه الجزئيات في كتاب حمل عنوان “الضيعة في جبال الساحل السوري.. دراسة أنثروبولوجية في الاجتماع والثقافة”.

 

الضيعة ومعانيها

يعرّف الكاتب الضيعة بالعودة إلى معاجم اللغة العربية، فيجد في لسان العرب: “الضيعة جمعها ضيع، وضيعة الرجل حرفته وصناعته ومعاشه وكسبه، يقال للمرء ما ضيعتك؟ أي ما حرفتك؟”، وفي المعجم الوسيط: “الضيعة هي الأرض المغلة، والعمل النافع المربح، منها التجارة والصناعة وغيرها الكثير من الحرف”، وفي المصباح: “الضيعة هي العقار والحرفة والصناعة، لكن لها معنى ودلالة أخرى درج استخدامها في لبنان والساحل السوري، إذ تستخدم بمعنى المنتجع، أو الحي، أو القرية، أو – بمعنى أكثر دقة وتكثيفاً – أي تجمع سكني وسكاني مهما كان صغيراً أطلق عليه اسم ضيعة”.

بهذا المعنى، انتشرت في سلسلة جبال الساحل السوري كثير من الضيع التي تمايزت في حجمها ومساحتها وعدد بيوتها وعدد سكانها، وبما أن الكاتب اتخذ زماناً له هو القرن التاسع عشر، فكانت الملاحظة أن الضيع تتميز بأنها صغيرة قليلة البيوت، وقليلة العدد ومتقاربة ومتجاورة من بعضها، وأحد أهم أسباب ذلك كان الطابع الأمني الاحتمائي، إذ كان الأهالي يتعرضون بشكل رئيسي إلى ثلاثة مخاطر هي: بطش العسكر العثماني، وانتشار قطاع الطرق واللصوص، والوحوش الضارية.

 

أنموذج اجتماعي وحياتي

اتخذ النموذج الاجتماعي الحياتي بتفاصيله وضوح الفرز الفئوي والاجتماعي، فكانت مقسمة إلى الوجهات المالية والتي استمدت نفوذها من الطابع العائلي والآلوي تاريخياً من الملكية ومنها الثروة والمال المرتبطان بالسلطة والحاكم والبطش والظلم، الوجهات الدينية والتي لبست لبوساً عالياً أيضاً إذ أطبقت على المعرفة فقهاً وتوجيهاً.

أما الهيكلية الاجتماعية، أي الطبقية الوظيفية التي تشكلت وتمظهرت، فكانت على الشكل الآتي: الآغا هو رأس الهرم، السيد، المستبد، المالك للأراضي والقرى، وما عليها؛ الشوباصي وهو الوكيل الميداني العملياتي للآغا، يتابع له إدارة أعماله الحقلية، وكل ما يتعلق بالناس والأرزاق؛ الفلاح وهو المزارع المالك لقطعة من الأرض ولبعض المواشي؛ المرابع وهو الفلاح الذي لا يملك لا أرضاً، ولا مواشي، ولا دواب، يعمل بجهده مقابل ربع المحصول السنوي، ويتحكم الأغا بوجوده وحياته وحياة أسرته؛ الأجير وهو ذلك الإنسان الذي يملك فقط جهده وصحته وقوته العضلية، والكل يستغله؛ راعي الغنم وهو غالباً ما يكون راعياً لأغنام  ومواشي ودواب الآغا مقابل إيوائه وإطعامه.

 

أسرار بيت الضيعة

بيوت الضيعة التي من دونها لا توجد حكاية هي النقطة الأساس في حياة الفرد والعائلة والجماعة. كانت البيوت في تلك الفترة، بغالبيتها العظمى، ذات طابع عمراني واحد، ومن المواد الأولية ذاتها.. بيوت تتشابه كثيراً من حيث البنية الداخلية والخارجية التي تكون فيها الدار مزدوجة، فترصف الأحجار من الداخل والخارج، أي “مدماكين”، بينهما فاصل أو فراغ. ويبنى بيت الضيعة بشكل مربع غالباً، ويرفع سقفه على أعمدة تسمى “السواميك”، ثم يأتي دور “الخنزيرة”، وتسمى في بعض المناطق “المنارة”، وكذلك “العرقة”، ودورها على غاية من الأهمية في تمتين السقف وحمله، وهي عبارة عن جذع خشبي سميك ومشذب. وكانت تفتح في الجدران نوافذ ليست كبيرة تسمى “طوقاً”، منها ما هو إلى الخارج بهدف التهوية والإنارة وتصريف الدخان، وطاقة صغيرة تطل على أرض بيت الجيران للإنذار والتحذير والأمن، موجودة في كل بيت؛ ويترك في سطح البيت دائماً فتحة تسمى “الروزانا”، وهذه الفتحة يرمى منها التبن، أو القمح، أو البرغل المعبأ بأكياس، ليصل إلى غرفة التبان التي هي عملياً جزء من داخل البيت.

وكان البيت يقسم أو يوزع داخلياً إلى “الصيباط الفوقاني”، ويكون في صدارة المنزل ويشغل مساحة ثلثه أو نصفه، وهو مخصص للأهل والضيوف؛ والصيباط التحتاني وهو المساحة الأخرى المتبقية من المنزل وتضم المطبخ، ومزراب الدواب، والتبان؛ بالإضافة إلى ملحقات أساسية ببيت الضيعة، وهي: التنور، الحاكورة، الجب، العرزال البراني، القن، الصيري، التكيكه.

 

تفاصيل جميلة

يسرد الكاتب تفاصيل ممتعة وأخباراً كثيرة عن مواسم الرزق وطقوسها في ضيع الساحل، والتي هي مواسم الحنطة، والزيتون، والدخان والتنباك، ومواسم الأشجار المثمرة: التين، العنب، التوت، الخرنوب، الجوز. ثم يمر على طقوس الأفراح والأتراح، فيصف حالات العشق والعشاق، ومن ثم الخطبة التي تسمى “طلب اليد”، وهي عبارة عن زيارة الأهل مع “كبارية الضيعة” (الجاهة)، ويجري الحديث عن المهر الذي يسمى ” برطيل”، ويقام الحفل في “مرسح الدبكة”، ثم يحدد موعد الزفاف والعرس، حيث كانت الاحتفالات تستمر سبعة أيام: ثلاثة قبل العرس، وثلاثة بعد يوم العرس.

الحكاية تطول وتطول، والكتاب يضم بين صفحاته ذاكرة خصبة لكل أجزاء الضيعة، من موروثها الوجداني والغنائي والموسيقي، وأمثالها والأقوال المتداولة، ولباس أهالي الضيع المميز، والتعليم والطب والمداواة، والحالات الاجتماعية، ووضع المرأة، وأيام السمر والتسالي والألعاب. والكتاب بتفاصيله يجسد حكاية الأجداد للأحفاد لكي لا ينسوهم، ولكي يتذكروا قصة حياة وذكريات.. حكاية في كل سطر من سطورها رائحة تراب الأرض بعد زخات المطر، وفيها رائحة الطيون والزيزفون والزعفران والزعتر البري.