ثقافةصحيفة البعث

أسئلة الأمس.. أجوبة الحاضر

في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، نحن أطفال القرى الغافية كل مساء بين ذراعي إله حنون إلى حين (جهجة) صبح ونهوض شمس توقظ حقول القمح على إيقاع نور وضوء، تاركة على وجوه الفلاحات وأيديهن بعض أسمائها وصفاتها، حين أتيح لنا متابعة ومشاهدة لحظة وصول الكهرباء إلى شوارعها، بيوتاتها المكدسة بالحنين والطافحة بالعصافير، أصبح لليل غير لون، وللسهر غير طعم، وللحياة غير نافذة وباب.

كانت الليلة الأولى لوصول الكهرباء إلى قرانا، وكنا أطفالاً، لم تكن تلك الليلة كغيرها من الليالي، كانت عيوننا مشدودة بخيوط من نور تجاه مصابيح عُلّقت على أعمدة خشبية زُرعت على جانب طريق مشيناها حفاة مبتهجين منشدين كل قصائدنا والأغاني حتى مطلع الفجر.

كان يروق لنا الصعود إلى أعالي التلال، والانتظار إلى أن يحين موعد إنارة الشوارع، فترتسم أمامنا لوحة لم نألف رؤيتها أو رؤية ما يشابهها إلا في كرنفالات الصيف ومعارضه دائمة الانفتاح، تلك المعلّقة على جدران السماء، لوحات من أقمار ونيازك ونجوم، وكنا أطفالاً- ومازال بعضنا حتى اليوم- وكان أكثر ما يدهشنا مراقبة البيوت وتأمل نوافذها المضاءة من بعيد، وما تتركه المصابيح من ظلال وتدرج ألوان.

رغم ما كان للسراج وقناديل الكاز والسبيرتو (اللوكس)، وما رافقهم  من خصوصية وحميمية ودور في إنارة الدروب والحياة والقلوب والأرواح، ولكن ما قبل الكهرباء لا يشابه ما بعدها.

كنا أطفالاً، وكان التلفاز أول ما دخل البيوت بلونيه الأبيض والأسود، وآلت المساءات غير المساءات، وللسهر نوافذ أخرى نطل من خلالها على غير أرض، كنا نتجمع بأعداد لا يعلمها إلا الله في غرفة لم تعد تتسع بعد بدء برامجنا الطفلية المخصصة لنا إلا لموضع دمع وابتسامات وفراشات من مقام طفل، وكان التلفزيون العربي السوري بقناته الوحيدة وببث لم يتجاوز عشر ساعات حتى منتصف الثمانينيات، ليبدأ إرساله وبثه للقناة الثانية، ومن ثم القناة الفضائية، وأجمل ما تختزنه الذاكرة لألف ألف عام وعام تلك البرامج المدهشة التي كان لها الفضل الكبير في حبونا تجاه الخير والجمال، والانتصار للمحبة، وعدونا بكل دهشة وطاقات، أسراب حمامات القرى ويمامات دمشق على دروب الانتماء للماء وللقمح وللينابيع، برامج أطفال لم تكن تبث إلا لساعتين أو أكثر بقليل، كنا نهرول مسرعين حين عودتنا من المدرسة لننهي بعض وظائفنا المدرسية، ومن ثم نتسمّر أمام الشاشة مترقبين بكل ما نملك من براءة ودهشة تلك البرامج التي كانت تحملنا تجاه عوالم إنسانية جديدة تزرع فينا وتنمي مشاعر وقيماً أخلاقية سامية.

نبكي بقهر مع بكاء أبطال مقهورين، ونفرح ونضحك حين تضحك شخصيات العمل، فكم بكينا حين وفاة العم (فيتاليس) صاحب الفرقة الجوالة التي تقدّم عروضها في الطرقات في المسلسل الأكثر تأثيراً بنا (ريمي)، وأيضاً كم طفحت أعيننا دمعاً قهراً وحزناً على مقتل بعض أعضاء الفرقة التي أخذت على عاتقها نشر الفرح في كل الدروب مثل (زربينو) و(جلكور)، وكم ركضنا دامعين مع ريمي وصرخنا بأعلى صوتنا وكلنا ريمي الذي يغص بالبكاء بالقهر، بالحرمان والتعاسة حين عرف أنه (متبنى) من قبل رجل وامرأة، ومن ثم قاما ببيعه للعم (فيتاليس)، وكم هتفنا معه وهو يدور دورته تلك التي حفظناها كوجه أمهاتنا:

وأنا أحب ساعة الفرح/ أنا صاحب الأحزان ريمي

رغم حزني وهمومي/ رغم من في الأحزان رماني

أنسى عندكم أحزاني/ أنا ريمي.. اضحكوا لريمي.

(ريمي) هذا المسلسل الذي مازلت أنتظر وأترقب عرض حلقاته هنا وهناك لأجلس كما كنت قبل أربعة عقود أردد كلمات شارته التي مطلعها:

نقطع الدروب نفرح القلوب/ ولنا في كل شارع صديق

نقطع المدى لا نؤذي أحدا/ نزرع الأفراح في طول الدروب.

ثمة أخطار كبيرة ومهيبة تحيق بطفلنا لا على مستوى التشوّه البصري والفكري والاجتماعي والنفسي فحسب، بل على المستوى الصحي الجسدي أيضاً، إذ كيف لطفل لم يبلغ سنواته الأربع بعد يتقن فتح الموبايل ويتابع برامج تروق له، برامج تضج بالصراخ والصراع والدماء، إضافة للضرر الذي سيلحق به نتيجة تركيزه لساعات في شاشة تعكس أشعة خطيرة عبر مساحة لا تتجاوز بضعة سنتمترات لا أكثر.

أدعو من هذا المنبر إلى التأسيس لمنظومة عمل طفلية جديدة تعمل وفق مشروع مؤسساتي، وبالتعاون مع جمعيات مدنية أهلية، للوقوف على حال طفلنا العربي عامة، والسوري بشكل خاص، الطفل الذي شوّهت الحرب الكثير من مفرداته إن لم نقل محتها بالكامل.

علينا أن نعيد النظر بمعظم ما يعرض اليوم، وما يطرح أمام طفلنا من نتاج يعنى به، بواقعه، بمستقبله، واضعين برامج ذاك الزمن الجميل نصب أعيننا، برامج زرعت ونمّت بذور المحبة والقيم والمشاعر الإنسانية في داخلنا، وأطلعتنا على حضارات وقصص شعوب وأمم كان لها الأثر الكبير في بناء هذا العالم، برامج من مقام: سندباد والعم علاء الدين- افتح يا سمسم- ساندي بل- هايدي- النسر الذهبي- عدنان ولينا- السنافر- ماجد اللعبة الخشبية- ساسوكي- نقار الخشب- جزيرة الكنز- سنان.. إلخ.

ثمة مسؤوليات جمة تقع على عاتقنا جميعاً، أدباء وكتّاباً وأفراداً ومؤسسات، علينا أن نكون بحجم ما قد يعترضنا من أخطار، فلا قدرة لدينا على تحمّل خسارات وانكسارات وهزائم جديدة.

 عباس حيروقة