دراساتصحيفة البعث

المؤسسات الدولية ليست حلاً سحرياً

عناية ناصر

المؤسسات الدولية ليست حلاً سحرياً يمكن أن يساعد في تذليل المشاكل السياسية والاقتصادية، لأنها قبل كل شيء نتاج لتوازن القوى، وإن استعداد الدول للاعتراف بهذا التوازن كأساس لعلاقات طويلة الأجل يبقى محكوماً بالظروف التي بموجبها تنشأ هذه القوى والمؤسسات، لذلك فإن المؤسسات، كمنظمات بيروقراطية ليست لها علاقة بديناميات ومضمون السياسة الدولية.

لقد مرت قبل فترة الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وتزامنت هذه المرة مع الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس هذه المنظمة، وقد تم إلقاء جميع خطابات رؤساء الدول والحكومات- وهي سمة تقليدية في مثل هذا الحدث- عبر الفيديو، ولكن ما لم يفعله السياسيون الأمريكيون للتنصل من مسؤوليات أمريكا كدولة تستضيف مقر الأمم المتحدة، وجعلها أداة لسياستها الخارجية الأنانية، تم تنفيذه بواسطة جائحة فيروس كورونا، إذ لم يأت أحد من قادة العالم من قوى كبيرة أو متوسطة ​​أو صغرى إلى نيويورك.

لقد انصبت الخطابات على الأزمة العميقة التي تواجه الأمم المتحدة، والتي هي، من حيث المبدأ، الحكم الدولي نفسه مع استثناءات نادرة، حيث كانت البيانات التي سمعت من الشاشات تحمل تصريحات أحادية الجانب للنوايا والمصالح، ولم تتطرق بأي حال من الأحوال إلى كيفية حل المشكلات السائدة، ما يعكس اليأس الذي كان مهيمناً على المناقشات، سواء داخل المؤسسات الدولية، أو حول مصيرها.

هذا اليأس يتناقض مع القيمة الحقيقية للمؤسسات التي ظهرت منذ نهاية الحرب الباردة، لأن جوهر الأسطورة التي ظهرت في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات هو أن المؤسسات نفسها لها تأثير جوهري على السياسة الخارجية للدول، علاوة على أنها تجبرها على اتباع المسار الصحيح، لكن الأمر لم يكن كذلك، فالحد الأقصى الذي تستطيع المؤسسات القيام به هو جعل بعض سلوك السياسة الخارجية المحدد متوقعاً ونسبياً، وحتى في هذا، كما نرى، تنهار هذه القدرة تحت ضغط العوامل السياسية المحلية المتعلقة بكل دولة.

من جميع النواحي الأخرى، لم تكن المؤسسات أبداً سوى طريقة تخفي فيها الدول القوية نواياها الأنانية، وتغطي تنفيذها بمفاهيم “الصالح العام”، وليس من قبيل المصادفة أنه حتى في إطار مؤسسة التعاون الإقليمي الأكثر تقدماً، أي التكامل الأوروبي، يتم اعتماد قوانين التشريع الأساسي في مؤتمرات حكومية لكل دولة، حيث لا يسمح لممثّلي الوكالات الوظيفية عابرة الوطنية، مثل المفوضية الأوروبية، بالمشاركة، حيث يتم تحديد تفاصيل هذه الأعمال وفقاً لمصالح وتوازن القوى للدول المشاركة في عملية التكامل، وهذا، كما قيل، هو مثال على أنجح مؤسسة دولية في عصرنا.

كان هناك معيار واحد فقط لتحديد من هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن- القوة العسكرية- وهو ما خلق “فجوة القوة” بين الدول الخمس والأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي، وهذا بالضبط السبب في أن أية مطالبات للانضمام إلى هذه المجموعة من قبل أولئك الذين هُزموا في عام 1945، أو الذين ليست لديهم قدرات عسكرية مماثلة، تظل بلا نتيجة، وستظل على هامش سياسات العالم الواقعية.. إن القوة النووية للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، في الوقت نفسه، تعمل كضمان لعدم تمكن أية قوة أخرى من إظهار سلوك مخالف، وبالتالي تصبح البادئ بحرب عالمية جديدة، في الوقت نفسه، وبقدر لا يقل عن ذلك، يردع العديد من الأسلحة النووية مالكيها عن مثل هذا السلوك، لذلك، في سياسات العالم الحديث، حتى على أعلى المستويات، لا يوجد سوى الإصلاحيين الذين يرغبون في إصلاح قواعد اللعبة، ولكن ليس بأي شكل من الأشكال إنشاء قواعد جديدة.

هذا العامل هو العنصر الوحيد المستقر في كامل المشهد الحديث، ولكن في الوقت نفسه، لا شك في أن القوى العسكرية الرئيسية لا تحتاج إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن من أجل السيطرة على سلوك بعضها البعض، بمعنى تم إنشاء هذه الهيئة كفرصة للقمع الفوري لأية محاولات “للتمرد” من قبل بقية المجتمع الدولي لا أكثر، لذلك، التواجد في مجلس الأمن على أساس دائم هو المهم، ومن غير المرجح أن تتغير هذه الأسباب في العقود القادمة، وفي حالة الاختفاء الافتراضي لهذه المنظمة، لن تختفي الأسباب التي تجعل المملكة المتحدة أو الصين أو روسيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا تنافس بعضها البعض، لذلك، ليس هناك سبب للاعتقاد أنه دون مجلس الأمن، و”حق النقض”، ستنهار علاقات المصالح بين “الخمسة”.

في الواقع، نشأ نظام الأمم المتحدة نتيجة للتسوية بين الأخلاق والقوة، ففي عام 1939، كتب ادوارد كار عن الحاجة إلى تقليل احتمالية تكرار وضع غير مستقر، ولكن الآن، كما رأينا، فإن العامل العسكري هو الضامن لعدم العودة إلى 1914 أو 1939، والأهم من ذلك، أن سلوك الدول المقيد والأخلاقي نسبياً ليس نتاج مشاركتها في المؤسسات الدولية، سواء أكان موجوداً أم غير موجود، فهو يعتمد فقط على العوامل والقيود الخارجية.

إن الأساس الأكثر إقناعاً لعقلانية الدولة هو القدرة على القيام بتدابير مضادة إذا تبيّن أن سلوكها يمثّل تهديداً، خاصة أن التنظيم الدولي السابق، عصبة الأمم، استهلكته نيران الحرب العالمية الثانية بسبب أنانية المنتصرين في عام 1918، والرغبة المتأججة للدول المهزومة في الانتقام، ففي منعطف جديد في التاريخ. بعد نهاية حقبة النظام العالمي الليبرالي في عام 2020، لا يمكننا القول بثقة إن القرارات التي اتخذت قبل 75 عاماً لاتزال فعّالة، وإذا كانت الأمم المتحدة، أو أية هياكل دولية أخرى، قد أصبحت عديمة الجدوى، فالأمر لا يحتاج إلا إلى إنشاء مؤسسات جديدة، أو الانتظار حتى ظهور مثل هذه المؤسسات كنتيجة لإعادة التوازن العالمي للقوة.