مجلة البعث الأسبوعية

التصعيد في منطقة بحر الصين

“البعث الأسبوعية” ــ مازن المغربي
تعيش الولايات المتحدة مرحلة أزمات اجتماعية شديدة هي، في نهاية الأمر، التعبير الجلي عن أزمة النظام القائم على علاقات ملكية تعطي الأولوية لمصلحة الطغمة المالية المتحالفة مع المجمع الصناعي – العسكري، الذي حذر منه رئيس الولايات المتحدة دوايت أيزنهاور، في آخر خطاب له، في 17 كانون الثاني 1961. لكن لم يهتم قادة واشنطن بهذا التحذير، واستمر نفوذ هذا المجمع الذي يٌعد من ركائز اقتصاد الولايات المتحدة، من خلال بيع الأسلحة وإشعال الحروب لاستهلاكها، وتجديد الطلب على المزيد منها، حيث بلغ حجم صادرات الولايات المتحدة من السلاح، في العام 2018، قرابة 192 مليار دولار أمريكي، بزيادة بنسبة 13% مقارنة بالعام الذي سبقه.
ويبدو أن واشنطن حسمت أمرها وحددت طريقها للخروج من هذه الأزمات التي لا يمكن أن تنتهي إلا بانفجار، إما على شكل ثورة أو على شكل حرب. ومن نافل القول أن المتحكمين بمفاصل القرار في واشنطن لن يتساهلوا مع أي احتمال لثورة اجتماعية، وبالتالي لم يبق سوى خيار الحرب. ونلاحظ أن واشنطن تحضر الرأي العام لاحتمال اندلاع مواجهة مع روسيا ضمن إطار حرب محدودة لا تشمل استهداف أراضي روسيا بهدف قطع الطريق أمام احتمال استهداف مدن الولايات المتحدة؛ كما نلاحظ إصرارها على توتير العلاقات مع الصين من خلال العقوبات الاقتصادية المترافقة بعمليات استفزازية من خلال إرسال قوات ضخمة إلى منطقة بحر الصين الجنوبي؛ كما قامت بإرسال وفد عسكري رفيع المستوى إلى تايوان، الأمر الذي ردت عليه بكين بمناورات بحرية هي الأضخم في تاريخها، وإرسال قوة جوية من 18 طائرة حربية اقتربت من حدود المجال الجوي التايواني.
وللتذكير، فإن تايوان ظلت جزءاً من الصين حتى عام 1895، حين ضمتها اليابان إثر الحرب الصينية – اليابانية الأولى. ثم استعادت الصين السيطرة على الجزيرة سنة 1945، في أعقاب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1949، انتهت الحرب الصينية بانتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ الذي أنهى حكم الكومنتاغ بزعامة تشان كاي تشيك، الذي فر مع أنصاره إلى جزيرة تايوان، وأقام فيها “جمهورية الصين الوطنية” التي حظيت باعتراف منظمة الأمم المتحدة ومعظم البلدان الغربية، واحتلت مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي، واستمرت هذه المفارقة حتى العقد السابع من القرن العشرين، حين نالت الصين الشعبية اعتراف المجتمع الدولي بحكومتها بوصفها ممثلة للشعب الصيني، وصارت “جمهورية الصين الشعبية” عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي.
وفي عام 1979، بادر رئيس الولايات المتحدة جيمي كارتر إلى قطع علاقات بلاده مع تايوان، واعترف بحكومة الصين الشعبية، لكن كونغرس الولايات المتحدة أقر قانوناً خاصاً يٌنظم العلاقات بين واشنطن وتايبه التي صارت، بحكم الواقع، محمية مرتبطة بواشنطن، على الرغم من أن ذلك القانون لم يلزم واشنطن بالدفاع عن تايوان في حال تعرضها لهجوم خارحي، لكنه لم يحظر مثل هذا الخيار ضمن إطار ما عٌرف بـ “الغموض الاستراتيجي”.
لم تتخل بكين أبداً عن مطالبتها بالسيادة على جزيرة تايوان التي تعدها مقاطعة منشقة، الأمر الذي يفسر سخط بكين إزاء إصرار واشنطن على تعزيز علاقاتها مع تايوان، لا سيما بعد مبادرة الرئيس ترامب بالاتصال برئيسة تايوان، إثر انتخابات 2016، الأمر الذي مثل سابقة منذ قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، عام 1979.
وشهدت الشهور الأخيرة سلسلة من الخطوات الاستفزازية من قبل واشنطن تمثلت بتتالي زيارات وفود رسمية رفيعة المستوى إلى تايوان. وفي 17 أيلول المنصرم، زار معاون وزير الشؤون الاقتصادية الجزيرة، والتقى برئيسة البلاد، وجاء الرد الصيني، بعد يومين، على شكل إرسال أسطول جوي ضخم ضم مقاتلات وقاذفتين وطائرة تحمل صواريخ مضادة للغواصات حلقت فوق المضيق الفاصل بين الجزيرة والبر الصيني.
وحرصت واشنطن، خلال العقود الأربعة المنصرمة، على عقد صفقات تسليح ضخمة مع تايوان. ومن المهم ألا ننسى أن تعزيز التعاون العسكري مع تايوان يندرج ضمن إطار فرض حصار على الصين، حيث تمتلك واشنطن 123 قاعدة عسكرية في اليابان، و83 قاعدة في كوريا الجنوبية، وأربع قواعد في جزيرة غوام، وخمس في جزر هاواي التي تستضيف المقر العام لقيادة قوات الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهادي والهندي، ناهيك عن الاتفاقيات العسكرية مع معظم الجزر الواقعة في تلك المنطقة، بما في ذلك ميكرونيزيا، وجزر مارشال.
وتٌعد قيادة منطقة المحيطين الهادىء والهندي مسؤولة عن عمليات الولايات المتحدة في منطقة تتجاوز مساحتها نصف مساحة الكرة الأرضية، وتضم 36 دولة، وتحتضن أكثر من نصف سكان العالم، ويتبع لها قرابة 375 ألف عنصر من العسكريين والمدنيين؛ كما يتبع لها أسطول من ناقلات الجند، وخمس حاملات طائرات. وتشرف هذه القيادة على المناورات العسكرية الهادفة إلى حماية حرية الملاحة في المنطقة – وفق زعم واشنطن – لكن هذا لم يمنع حكومة بكين من الرد بطريقتها المعهودة، حيث أرسلت في نيسان 2020 حاملة طائرات وخمس سفن حربية لتمر عبر مضيق يفضل تايوان عن جزيرتي أوكيناوا ومياكو اليابانيتين. واستمرت خطوات الرد الصينية وفق إيقاع مدروس يعتمد على سياسة النفس الطويل، مع الإصرار على أن الصين لن تلتزم بقواعد اللعبة وفق تصور واشنطن، بل سترد على أي هجوم بعمليات شاملة، ولن تتقيد بفكرة الحرب المحدودة التي تبناها وزراء دفاع الناتو خلال تداولهم لاحتمال اندلاع حرب محدودة في أوروبا يتجابه فيها الحلف وروسيا الاتحادية.
وقد عقد الاجتماع التداولي في شهر حزيران المنصرم، وناقش المجتمعون احتمال تزويد الصواريخ متوسطة المدى التي تم نشرها في أوروبا برؤوس نووية محدودة القدرة التدميرية. وتذرع المجتمعون بفرضية أن روسيا تتبنى سياسة تصعيد بهدف الوصول إلى تهدئة اعتماداً على المرسوم الذي وقعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 2 حزيران، وتضمن توجيهاً باستخدام الأسلحة النووية في حال تعرضت روسيا إلى هجوم نووي، أو في حال وقوع هجوم شامل بالأسلحة التقليدية يمكن أن يهدد وجود روسيا كدولة. وقد علق الخبير الأسترالي في الشؤون الروسية باول ديب بأن روسيا تتبع الآن الاستراتيجية التي طبقها الناتو ضد الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. لكن التاريخ علمنا أن من الوارد أن يقود فعل أحمق إلى إشعال حرب، إنما لا يمكن لأحد ضمان السيطرة على المدى الذي يمكن أن تصل إليه مواجهة لا يمكن لعاقل تمني حصولها لأنها تتضمن مستوىً عال من المخاطر.