مجلة البعث الأسبوعية

“الدراما العربية المشتركة”.. “مال جاهل” لا يأبه بالحدود ونقاد واعون يطالبون بالتأشيرة

“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات
هناك نظرة غير محابية، أو لنقل “معادية” لدى “الرأي العام الدرامي” ضد ما بات يُعرف بـ “الدراما العربية المشتركة”، وهي ظاهرة تلفزيونية درامية بدأت منذ عقدٍ من الزمن تقريباً، ويمكن إيجاز ملامحها بأنها تقوم على اشتراك عدد من النجوم العرب بعمل درامي تلفزيوني واحد (سورية، لبنان، الخليج، الأردن، مصر)، وأيضا يضم فريق العمل توليفة عربية، مثل المخرج والكاتب والممثل، والأهم شركة الإنتاج؛ وغالباً ما تكون خليجية، وعلى الأرجح إماراتية. ويتمثل الانتقاد الذي يؤخذ على هذه الظاهرة بأن نوعية هذه الأعمال تبتعد عن تفاصيل المجتمع الواحد، فتغيب الخصوصية والمناقشة العميقة والجادة للقضايا المجتمعية.
الأنكى من ذلك أن الموقف المضاد للتجربة قد يُبالغ أكثر، فيصف قصصها بالسطحية وترويج الديكور وحياة الرفاهية، وقد يحتدّ هذا الرأي أكثر، ويُلمح إلى “المال الخليجي”! ثم شيئاً فشيئاً يُصبح هذا الموقف معمماً، ويأخذ شكل البديهة لدى النقاد، ولا يكاد المُطلع يقرأ رأياً يبحث في مزايا هذه التجربة، ولو على سبيل الموضوعية أو التماس العذر، وهكذا صارت هذه الظاهرة الثقافية – الصحية والصحيحة – وبطريقة غير مفهومة، ومجهولة المبررات، موضع شجب بسبب مزاياها!
يمكن وصف الدراما التلفزيونية المحلية – على مستوى القصة – بأنها دراما مدينة أو قرية، غالباً ما تقع أحداثها في مجتمع محليّ؛ وسنكون أقرب إلى الصواب إذا قلنا – مثلاً – “دراما القاهرة”، وليس “دراما مصريّة”، أو دراما “دمشقيّة” وليس “سوريّة”؛ فالاعتناء بالمركز داخل كل بلد سمة واضحة في هذه الأعمال. ونادراً ما تتناول هذه الدراما الأطراف، وإن فعلت تكون أطرافاً غير محددة بوضوح، مثل الأعمال “البدوية”، أو أعمال “اللهجات”، وفي أحيان نادرة تتخصص بالمدينة الثانية ضمن البلد نفسه، كأن نرى مسلسلاً تدور أحداثه في الاسكندرية أو حلب.
والآن، ومع خروج الدراما العربية من حيزها الضيق، وفي زمن أصبحت فيه الطائرات ووسائل النقل الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي مُتاحة، كان من الطبيعي أن تعمل في فضائها اللغوي والثقافي، ومن البديهي ألا نتوقف عند حدود سياسية صُنعت منذ عقود، فالفضاء الثقافي والمعرفي لا يحتاج إلى جواز سفر ليعبر، فـ “أنا أفهم ما يقول الممثل، وهذه الدراما إذاً تخصني وتمثلني، والأمر نفسه ينطبق أيضاً على الأغاني والموسيقى، ولا أحد يفكر – وهو يُطرب لأغاني سيد درويش وطلال مداح وصباح فخري – ماهي جنسية هذا الفنان الذي أُطرب أنا له الآن.. إن وجود دراما عربية مشتركة هو القاعدة وليس الاستثناء. والسؤال الذي كان يجب ألا يُطرح، لكنه يُطرح وبكثرة ودون فهم لدلالاته، هو: “لماذا نهضت هذه الظاهرة الآن ومنذ عدة سنوات؟”، في حين أن السؤال الذي يجب طرحه هو: “لماذا تأخرت إلى الآن؟”، وهذا قد يستدعي سؤالاً جديداً يقطع على سابقه: “هل هي حقاً ظاهرة جديدة وحديثة؟!”.
بالأمس القريب، رأينا نجوم سينما وطرب من بلاد الشام في مصر، ولم نزل تنذكر برنامج الأطفال الناجح “افتح يا سمسم”، والذي كان يضم العديد من الممثلين العرب، ويقوم بزيارة مدن عربية عديدة ضمن قصصه الفرعية؛ وسوف يكون من الإجحاف التوقف بالقصة العربية فقط على حالتها الدرامية، ولنرجع إلى “ألف ليلة وليلة”، ولنلق نظرة على الفضاء الجغرافي الثقافي فيها.. في “الليلة العشرين” تحدث القصة التالية: خلاف بين أخوين وزيرين في مصر بخصوص تزويج ابن أحدهما لإبنة الآخر في المستقبل. يتطور النقاش، ويغتم أحد الوزيرين، فيقرر الخروج من مصر، وينتهي به المطاف في البصرة، بعد أن يمرّ بعدد من المدن، وهناك يتزوج وينجب ولداً، بينما أخوه الذي في مصر ينجب بنتاً. يكبر الفتى الذي في البصرة، وبعد حظوة ونعمة يهرب من مكيدة ترمي لقتله، وينام عند قبر أبيه في طريقه للهروب. تراه عفريتة، وتُفتن بجمال وجهه، ثم يأتي عفريت آخر قادم من مصر، فتخبره بأنها لم تشاهد إنسانا أجمل من هذا الفتى النائم قرب أحد القبور، فيخبرها العفريت بأنه شاهد هناك فتاة بجماله نفسه، ولكن أباها رفض تزويجها لابن الملك، فقرر الملك أن يزوجها للسائس الأحدب عقاباً لرفض والدها تزويجها إياه. يُشفقان عليها ويقرران حمل الفتى الذي في البصرة إلى مصر، هناك يدخل بها ويعيدانه إلى حيث كان، لكنهما في الطريق إلى البصرة، يتعرضان لـ “الرجوم” في السماء، فيضطران للهبوط في دمشق”.. وهكذا يستيقظ الفتى، ويستأنف حياته في دمشق، وتستمر القصة بالتعامل مع هذه المدن مضافاً إليها البصرة والقدس وحلب، بوصفها فضاء جغرافياً واحداً؛ وتلك هي البديهة الإبداعية، فعندما أتوجه لجمهور يقرأ اللغة العربية، فلا بد أن تدور القصة في مدنه وبلدانه.
بالطبع، هناك انتقادات على مستوى الشكل والمضمون يمكن أن توجه لهذه الدراما، ولكن ليست لأنها عربية – فليست هذه هي المشكلة – بل يجب النظر إلى نقاط الضعف فيها بمعزل عن كونها عربية مشتركة أو محلية، فكونها عربية مشتركة ليس ذلك هو السبب، بل هو في ظروف صناعتها وإقحام صفة “المشتركة” عليها، دون الأخذ بالحسبان أن وجود هؤلاء النجوم العرب معاً، أو ظهور بضع مدن عربية في العمل نفسه، يجب ألا يظهر أنه مُفتعل وبقرار إنتاجي، وإنما نابع من القصة التي يجب أن يكون لديها ما يبرر وجودهم، أو وجود الأماكن المتنوعة.. المشكلة نفسها قد تحدث – فرضاً – ضمن الدولة العربية الواحدة، إذا قمنا بإقحام بضع مدن في القصة، أو بضع ممثلين ينحدرون منها.
لنفترض أن صانع دراما أردنياً يريد إنتاج مسلسل تدور أحداثه في دمشق، حمص، اللاذقية، لممثلين أو شخصيات ينحدرون من هذه المدن.. إذا غابت الحبكة والمبرر فإن العمل سيظهر مفتعلاً وبقرار إنتاجي بحت، فماذا نسمي سبب الفشل عندئذ؟ لقد انتفت صفة الدراما العربية المشتركة عن هذا المثال، لأنه ضمن دولة واحدة، ولكنه سيعاني تماماً في حال عدم وجود دافع في القصة يبرر هذا التنوع، وهو نفسه ما تعانيه الدراما العربية المشتركة؛ فالمشكلة إذا ليست بكونها مشتركة أو محلية، بل هي مشكلة تقنية صرفة.
المشكلة التقنية التي تعاني منها ما نسميه بـ “الدراما العربية المشتركة” – وهي ظاهرة يجب أن تلقى التشجيع والدعم – يمكن أن تُعزى إلى أسباب روائية صرفة، وليست درامية، لأن الرواية العربية الحديثة نادراً ما تميل إلى التنويع المكاني، بينما نجد في الأدب الأوروبي الحديث “رحلة حول العالم في ثمانين يوماً” (جول فيرن)، والتي هي ببساطة توثيق أدبي للمستعمرات الإنجليزية، ومحاولة ضمها في فضاء أدبي واحد، ولدينا “قصة مدينتين” (تشارلز ديكنز)، وهناك أثينا واسبارطة والملحمة الشهيرة المرتبطة بهما. وما سبق يمكن إيجازه بخلل واضح تعاني منه هذه الدراما، وهو افتقارها إلى أنموذج شهير في الحبكة، وهو ما يسمى “بناء الرحلة”، وغالباً ما تتسم جميع القصص التي تجيد هذا البناء بالجودة، ولنتذكر “قصة يوسف”، مثلاً، ورحلته إلى مصر.
المشكلة الثانية الواضحة في هذه الدراما، التي نسميها “عربية مشتركة”، هي في الديكور والأزياء، فالمنتجون – على ما يبدو – لديهم سخاء يُشكرون عليه، ولكنه يذهب إلى غير محله، فلا اعتناء بالقصة وهناك تبخيس بحقوق الكتّاب وغيره من المسؤولين عن الجانب الإبداعي؛ ولهذا ينزع القائمون على هذه الصناعة إلى الضخامة الإنتاجية، ولكن ليس على مستويات الإبداع، فالإبداع مكلف؛ فأن تطلب من كاتب أن يتفرغ لعام أو عامين لإنجاز نص جيد، غير أن تطلب منه على عجالة، وقبل شهر من التصوير، أن يوافيك بحلقات فبركت على عجلة، ولم تأخذ الوقت الكافي للنضج، وأن تعطي مخرجاً مبدعاً نصاً يحتاج منه إلى دراسة وافية وتأمل في التحضير شيء، وأن يكون الجهد الإنتاجي مصروفاً على السيارات الفاخرة والديكورات المبهرة والملابس الاحتفالية شيء آخر.. المشكلة هنا تُختصر بعبارة بسيطة: بذخ استعراضي وليس إبداعياً.
المشكلة الثالثة هي في التسمية نفسها “مشتركة”، فالتشارك يحدث عادة بين من يتمايزون ويختلفون، وليس بين الذين من الطبيعي أن يكونوا معاً في قصص واحدة، فنحن عادة ما نرى في فيلم هوليودي واحد مخرجاً بريطانياً وكاتباً امريكياً ونجمة أسترالية وممثلاً آخر كندياً أو إيرلندياً، دون أن ينتبه أي ناقد هناك إلى أنه “مشترك”.. يكفي أنهم يتكلمون لغة واحدة، ليكون ظهورهم معاً أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى تصنيف، فالأصل والبداهة يقتضيان ألا يلتزم فن تنتجه ثقافة ما بحدود سياسية تفصل فيما بينهم.
من الغريب أن أصحاب رؤوس الأموال والشركات المنتجة، الذين يُغمز من قناتهم دوماً بالحديث عن “المال الجاهل”، لديهم وعي ومعرفة بهذه التفاصيل، ولا يلقون بالاً للحدود، في حين أن الناقد الذي يكتب، والذي من المفترض أنه على درجة من المعرفة، هو الذي يتوقف عند الأمر، عند الحدود، ويطالب الدراما أن تتوقف معه أمامها، وأن تختم جوازاتها وتحصل على تأشيرات!