مجلة البعث الأسبوعية

وريث كحل العيون ـــ خط التحبير الراقص

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

أغمض عينيك وتأمل.. ثم أبحر!
كل فناني رسوم قصص الأطفال يدركون أهمية الرقص على الورقة البيضاء بواسطة البهي الجذاب، خط التحبير. لا تتكون شخصية، ولا تتبين ملامح خلفية، إلا بحدوده. كتبت ذات يوم في كرّاس (كيف نرسم لوحات قصص الأطفال) ما يلي:
بعد مرحلة خط الرصاص، يأتي الشقيق الآخر في عمليتنا الإبداعية.. خط التحبير هو الرصين الواعي، واثق الخطوة، واضح الأهداف، يسير الهوينى. واثق الخطوة يمشي ملكاً، ولهذا الملك أصول في مشيته: الدقة، الهدوء، الوضوح. الريشة المعدنية المغموسة بسواد الحبر يجب أن تسير على الورقة كراقص الباليه، بهدوء وانسيابية، وتعمل على تجسيد كل ما في قلب وعقل الرسام، لأن العثرة تعني السقوط وإفساد الرقصة؛ واتجاه خط التعبير وميله وانسيابيته فن خاص يعبر – برأيي – عن ثقة الفنان وخبرته وقدرته على تجسيد رسومه بشكل راقٍ: “حين أنظر لطريقتك في الإمساك بقلم التحبير أو الريشة المعدنية، وأنت تعمل، أعرف أنني أمام شخص محترف وفنان متمرس أولاً”.

من منبت جذر التاريخ
كان هناك فلاح أتقن زراعة الحضارة في تراب أرضه. كل يوم يبثها همومه وآماله فتعطيه أصول الحضارة السورية التي ستكون، فيما بعد، أرض الأعطيات الكاملة والنبيلة لكل أهل الأرض. وجد يوماً طريقاً لتدوين أحلامه عبر الكتابة والنقوش، وراح يطورها حتى وجد طرقاً لرسم مراحل صيده وزراعته وحياته وأفراحه وأحزانه عبر الأوراق، فاخترع ألواناً ومداداً لقصبه المنحوت، وراح يرسم ويكتب ويعبر عن حبه. أهدى من يحبها رسائل عشق، وميلاً، وبودرة حبره كحلاً، وراح يرسم عينيها في كل ما تمسه يده الحضارية الأولى.
بمثل هذه الأساطير، يمكن لكل معلّم للفن أن يوجه أبناء هذه الأرض للغوص جليلاً في تاريخ الفنانين الأوائل، ممتهني اللوحات الفسيفسائية، وناحتي الجمال، ومتتبعي أثر عشتار في كل محفل ودرب. المحبرون والخطاطون الأوائل، والرعيل المؤسس الأول لهذه الفنون، لطالما تلمسوا من سير أهليهم وتفاصيل جمال بيئتهم وأساطير منبتهم جذوة الإبداع.
كان الدكتور الفنان عبد الكريم فرج، الأستاذ في كلية الفنون الجميلة في دمشق، قسم الحفر والطباعة، يخبرني دائماً – وأنا طالب لديه – أن العلاقة بين الأسود والأبيض أزلية، وبأنها كعلاقة الخير والشر – ولو جزئياً – كعلاقة السماء بالأرض، والذكر بالأنثى، علاقة قائمة على رقص لا ينتهي، ولا يجب أن ينتصر فيها أحدهما على الآخر. كان يمسك ورق الرسم الأبيض بيديه، وهو يرسم لي اسكتشات لوحة لننقلها معاً – أنا وهو – للمعدن النحاسي وتحضيرها للطباعة: فلاحك الذي ترسمه للأطفال دائماً يجب أن يحمل الغلال على ظهره وهو ينشد للقمر، وبينه وبين ضوء القمر حكاية تعال نجسدها بخطوط سوداء على هذه الرقعة البيضاء، واحرص أبداً على أن يكون خط التحبير لديك هو سيد الموقف في كل لوحاتك التي تنوي رسمها للأطفال، حتى الممات.

صديق بنكهة الحبيب
خطوط التحبير، في لوحات قصص الأطفال، لها سر وحكاية غريبة، تمتد على امتداد زمن الحكايات الأولى الذي يشع من ذائقة الفنان التي تربى عليها منذ نعومة أظفاره. خط الحب دواء لروح الفنان يتأمل فيه نهايات الرسم، يزيح عبء خطوط قلم الرصاص، ويقول كلمة الفصل، فخطوط الرصاص تتشعب وتتنوع بضربات متواترة عشوائية بحثاً عن طريق واحدة يدركها، من اللمسة الأولى، صديقنا قلم التحبير وريشة الرسام المعدنية، أكان خط التحبير هو المتعارف عليه باللون الأسود، أم كان في بعض الحالات والمدارس الفنية خطاً غامقاً من روح المساحة لتحديد أبعادها.
كنت – ولا زلت – أعلّم طلابي أن خط الحبر هو ثقة الفنان بنفسه، وتتويج لعلاقته مع المساحة البيضاء.. مطاردة المساحات البيضاء ومغازلتها، ومراقصتها، للخروج بتناسق يفضي إلى فهم التكوين هو ميزة إتقان التحبير في لوحات قصص الطفل.
* المقصود بالخط هنا هو ذلك الخيط الرفيع الذي يسير عبر اللوحة ليكوّن لنا الأبطال والخلفيات والعناصر الموجودة في اللوحة.

له فروض الطاعة كلها من بقية الألوان
لكل لوحة تشكيلية مقومات ترتكز عليها وقت البناء، ولوحة الطفل جزء من العائلة الفنية التشكيلية، لذلك فهي تحتاج إلى مقومات كثيرة يجب الإلمام بها قبل خوض غمار الرحلة اللونية. ولعل من أهم تلك المقومات – إن لم يكن الأهم بينها – خط التحبير، ذاك الطريق الواضح، وساقية الحبر الناعمة الرفيعة، ذات انحناءات الخصر البهية؛ تدل – دائماً وأبداً – قوة ومتانة وليونة انسيابها على موهبة الرسام من خلفها. ولماذا نقول بأنه الأهم؟ لأنه ببساطة يملك حدود المساحة، وضبط إيقاع اللون فيها. يملك أن يقول كلمة الفصل بين الشخصيات المتحركة فيما بينها والخلفية التي وراءها. ولهذا كله كتبت في مقدمة المقال هنا: أغمض عينيك وتأمل.. ثم أبحر!
هي دعوة لمتقني، ومريدي تعلم إتقان، فن التحبير أن نغمض أعيننا، ونعيش حكايتنا الخاصة عميقاً.. عميقاً داخل الروح، ثم لنفتح أعيننا على المساحة البيضاء التي أمامنا.. ولنبحر!