ثقافةصحيفة البعث

مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ.. مزايا الحجر الصّحي

يقول الروائي الصُحفي السوري خليل صويلح: كانت عبارة “حظر تجوّل” تخصّ بيانات الانقلابات العسكريّة في المقام الأول، قبل أن تفرضَهَا معظم سلطات العالم لمواجهة هذا الوباء المستجدّ فيروس غامض يحمل اسماً أنثويّاً ناعماً: “كورونا”، وصيغة علميّة جافّة تدعى “كوفيد ناين تن”. هذا الوباء الذي اجتاح الكرة الأرضية بالطّول والعرض، وعولمَ الألمَ والخراب، رادماً الطريق إلى الأمل، دون أن يعبأ بالحدود والأخلاق والأدعية الغيبيّة، أو بتعاليم التّيمّم المألوفة، والذي كثرت التكهّنات والافتراضات المختلفة حوله: من حرب بيولوجيّة خفية بين الإمبراطوريّات الكبرى، إلى لعبة سياسيّة مبالغ بها وبأهدافها، يستخدمها دعاة العولمة لبثّ الرعب لدى الشعوب والدول الّضعيفة لتزداد انكماشاً وتقوقعاً على نفسها أكثر فأكثر، بغية إجبارها على تسليم قيادِها بسلاسةٍ للطّامعين في خيراتها وفي مزيدٍ من الخنوع. أو أنّ هذه المرحلة تمثّل الشكل الأعلى للتغوّل الإمبريالي الحديث، ممثّلاً بالإمبراطوريّة الأمريكيّة الآيلة إلى السّقوط كشأن كلّ إمبراطوريّات التاريخ الخيّرة والشّريرة، إذْ ما إن تصل إلى ذروة قوّتها وانتشارها، حتى تبدأ عوامل تفكّكها وتقوّضها من جديد. عوامل نقيضة، ذاتيّة وموضوعيّة تنشأ حسب آليّة التطّوّر ذاتها “الطبيعي والاجتماعي والتاريخي”.

وهاهي تناقضات المجتمع الأمريكي تشير إلى مثل هذه البشائر، حيث بدأت تطفو على السّطح بعض البشائر كـ: التفاوت بين الأعراق وسيادة العرق الأبيض على الجميع، تفاقم الوضع الاقتصادي، تعالي نسبة البطالة، عدم القدرة على أخذ الاحتياطات تجاه وباء العصر “كورونا” رغم كلّ تبجّحات ترامب وطاقمه الحاكم، الذي قلّل من شأن هذه الجائحة، ولم يعرها الاهتمام الكافي، حتى حصدتْ أرواح آلاف الأمريكيين.. الخ. لذلك لم تجد الطغمة السياسيّة الحاكمة، وهم الواجهة السياسيّة الحامية لمافيات شركات إنتاج السلاح والاحتكارات الكبرى، سوى أن تسعى جاهدة لتصدير أزماتها إلى العالم أجمع بأن وجّهتْ حرابها نحو الجميع، والهدف هو دبّ الذعر في كلّ المجتمعات والدول، لترهيبها أو ترغيبها بالسير في الركب الأمريكي، واستغلال نتائج الفوضى الحاصلة لكسب المزيد من الأرباح. كذلك، استثمار الهلع العام بالتّرويج لنوع من اللّقاحات الشافية، عبر احتكارها والمساومة عليها كنوع من المضاربة العالميّة والتجارة حتى بأحلام الناس الحالمين بالشّفاء من هذا المرض اللعين. هكذا انقسم العالم بين مشكّك سلبي، ومندّد به، وعارف بأنّه وباء قاتل يجب اتقاؤه بابتكار اللّقاح المناسب بأسرع ما يمكن. ولم تجد المجتمعات المستضعفة ذات القناعات الغيبيّة أمامها طريقاً إلّا أن تسلّم بالأمر معتبرةً إيّاه قضاءً وقدراً. تحت شعار: بأن المكتوب لا مهرب منه!. أمّا المجتمعات الحيويّة ذات الذّهنيّة العلميّة، فلم تكتفِ بالفرجة منتظرةً حدوث الكارثة، بل حشدتْ طاقاتِها العلميّة وكفاءاتِها، ووظّفتها بكاملِ الجديّة، باتجاه الهدف المنشود، بغية إيجاد لقاح حقيقي لهذا الوباء المتفاقم، لتدفعه عن نفسها أوّلاً، وعن البشريّة أجمع ثانياً، من منطلق الإحساس بالمسؤوليّة، وأنّ ما يجري يمثّل امتحاناً وتحدّياً للضمير الإنساني عموماً، وللنظريّات العلميّة المتطورة التي اخترعتها البشريّة حتى الآن.

وعودة لموضوع العزلة، نجد بأنّ هذا المرض المستفحل، وما رافقه من ضخّ إعلامي يومي هائل، فرضَ شكلاً مجحفاً للعزلة الاجتماعيّة والفرديّة على مستوى العالم، من خلال الإجراءات الصّارمة التي وصلتْ إلى حدّ التعسّف أحياناً، حيث غدا الجميع ينظر إلى الجميع كعدو مفترض سينقل إليه المرض الفتّاك، حتى أنّ أعضاء الجسد الواحد تجافتْ مع بعضها، وفرضت على نفسها نوعاً من التباعد، فلا اليد تجرّأت على ملامسة الوجه بشكل عادي، أو مسحه برفقٍ من عناء التعب، ولا الأصابع باتتْ تعيش بوفاق مع بعضها البعض في انتمائها العضوي للكفّ. كما غدا كلّ شخص يتوقّع بأنّ الآخر المصافح، سينفجر بوجهه كقنبلة موقوتة. لقد أصبحتْ اليد الممتدّة للتّحيّة والألفة، “خنجراً مسموماً” يجب اتقاؤه بكلّ وسائل الدّفاع بما فيها التّجاهل أو الهروب.

هكذا انكمش الفرد على نفسه، غارقاً في الضّجر والسلبيّة، ولم يعد يخرج من قوقعته إلّا للضّرورات اليوميّة، ما شكّل نوعاً من الشّلل الاجتماعي والفردي والضياع النفسي من جرّاء هذه العزلة القسريّة غير المألوفة. لكن للأدباء فلسفة أخرى في “امتداح العزلة” والبقاء في البيوت وعدم الاختلاط بما يتناسب وضرورات الكتابة التي تتطلّب مثل هذا الأمر، انطلاقاً من قول بول أوستر: “غرفُنا هي السّجون الوحيدة التي ندخُلها طوعاً لنجدَ الحريّة”. هكذا يتوقّع أصحاب هذه المقولة بأنّ أوقات الحجر الصحي والعزلة سيخفضان من منسوب الضّجر عبر استثمارهما بمراجعة الأفكار والقناعات وتشذيب السلوكيّات الخاطئة الخ. ويعطون أمثلة على هذه العزلة الإبداعيّة المثمرة، عزلة شاعرنا المعرّي، رهين المحبسين، صاحب مقولة “لا إمام سوى العقل”، الذي وضعته مبادئه هذه في مواجهة المتزمّتين والمتطرّفين على اختلاف أنواعهم وجهاً لوجه فأفتوا بتكفيره!، وذلك لجرأته في طرح أفكاره والتّحليق بها إلى مديات غير مسموحة من قبل الثقافة الرسمية، وخاصّة في كتابه “رسالة الغفران”. هاهو يمتدح عزلته قائلاً: “فما للفتى إلّا انفراد ووحدة، إذا هو لم يُرزَق بلوغَ المآرب”.

وهناك من فرّق بين “العزلة والخلوة”، حسب الروائي خليل صويلح أيضاً” كـ”ابن عربي” بقوله: “فأمّا العزلة فهي أن يعتزل المريد كلّ صفةٍ مذمومةٍ وكلّ خلق دنيء” و”أرفع أحوال العزلة الخلوة. فإنّ الخلوة عزلة في العزلة، ونتيجتها أقوى من نتيجة العزلة العامة”.

أوس أحمد أسعد