ثقافةصحيفة البعث

“عائلة باسکوال دوارتيه”.. رواية دشّنت شكلاً فاعلاً للواقعية الوجودية

في ظل طابع رواية “عائلة باسكوال دوارتيه”، سيحتفل القارئ بالأعوام الستين الأولى من حياته، الرواية التي اكتسبت منذ لحظة إصدار طبعتها الأولى مرتبة المعلم التاريخي الأدبي المتداول، وهي مرتبة لم تبلغها سوى قلة من النصوص السردية أو الشعرية أو المسرحية.

حدّد كاتب مخطوطة “عائلة باسکوال دوارتيه” الشهيرة، المكتوبة بخط يده تاريخها في ۷ كانون الثاني عام 1942، وفي نصّ آخر ظهر عنوانها في مجلة “بيبليوفيليا” في آذار من عام 1951، بعنوان: “مغامرات باسکوال دوارتيه وعائلته في أوروبا وأمريكا”، قدّم لنا كاميلو خوسيه ثیلا بیانات جديدة مستقاة من المصدر: “فيما يخصني، أنا والده، ولد باسکوال دوارتیه في عيد القديسين الأبرياء، في مرآب يقع في شارع آليتثا الرقم 20، وتقريباً في المحطة الأخيرة المسماة “كونتينتال السيارات”، وهو خط الحافلات التي تقوم بخدمة النقل من مدريد إلى بورغوس وبالعكس، فتقوم بجلب المسافرين والأمتعة والطرود، جيئة وذهاباً”.

بصرف النظر عن القيمة الجوهرية للرواية- الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب- ترجمة د. ريم منصور الأطرش- من نثرية وبنيوية وهي كثيرة، فهي عمل استثنائي لما يعنيه لمسيرة مؤلفه وللأدب الاسباني المنقسم بخندق الحرب الأهلية العميق، وبالمنافي الخارجية أو الداخلية، وبالمغالاة في الانتهازية، وبالمواقف المرتبكة اللاحقة.

بالنسبة للمؤلف كاميلو خوسيه ثيلا، مثل هذا العمل هو بمثابة انتقال من الشعر إلی السرد، وأول کتاب منشور له، بدأ الكاتب، المولود في ايريا- فلافيا في عام 1916 بالتمكن من أسلحته الأدبية، شاعراً متنبهاً للتحريض السريالي، في مدريد، ما قبل الحرب مباشرة، فسكب بمثل هذا الاندفاع وتلك الأصالة في خطوته نور النهار المتردد دیواناً شعرياً لم ينشر إلا عام 1945.

في الواقع، دشنت هذه الرواية شكلاً فاعلاً للواقعية الوجودية، أكثر حيوية منها فلسفية، وهذا الشكل موضح جمالياً بتعبيرية ذات أصل اسباني راسخ ومباشرة، وجدت هذه التعبيرية، بالإضافة إلى تقديمها ما يقابل تماماً رواية الغريب لألبير كامو، التي نشرت في العام نفسه عام 1942، صدى ودعماً من أقلامنا الأخرى الأكثر شباباً، ولكن ما لا يقل عن ذلك إثارة للإعجاب هو أن عائلة باسكوال دوارتيه قاومت فعل تحويلها إلى مجرد أثر جامد، حامل في داخله الازدراء لجوهره الخالد المتحجر، فبقيت على قيد الحياة، ليس بالنسبة للقراء الإسبان الذين اختاروها للتو من بين أفضل عشرة كتب باللغة الاسبانية خلال القرن العشرين فحسب، بل في لغات أخرى عديدة، وهذا ما جعلها الرواية الاسبانية الأكثر ترجمة، إلى جانب رواية دون کیشوت، وبإصرار البيانات البيبليوغرافية يتأكد الدليل التالي، وهو أن ذلك الشاعر الشاب الذي لم يُنشر له عملياً أي شيء قبل عام 1942، وهو کامیلو خوسيه ثيلا، قد ترسّخت روايته بالفعل في تلك المنطقة الأدبية المتميزة، ضمن النطاق الوحيد الذي يتم فيه التغلب على القيود البشرية المكانية والزمانية، على حد تعبير الأديب ت. س. اليوت، الحائز على جائزة نوبل.

تشير رواية عائلة باسكوال دوارتيه إلى حالة باكرة من التفوّق عمّا قبلها، لكاتب غيّر مسار إبداعه نتيجة للحرب الأهلية، ومنذ ذلك الحين نراه يضع في صميم أدبه كله مِزّقاً من حافظة نسیج عمله الأول في نهاية المطاف، ثمة بحث عن الأصالة، ثيلا الذي وعد، مرة، بتطوير أطروحة تقول: إن الرجل السليم لا يملك أفكاراً، وبالتركيز على الجوهر عند الناس ووضعه في مركز أدبه، ها هو يستغني عن كل الزينات والأقنعة الثقافية أو الاجتماعية التي يمكنها إخفاؤه، لتلتقي أطروحته في النهاية بالشعاب الممزّقة وبالخراب، وهو العنصر الأساسي في أدبه، ولتلتقي أيضاً بالشعاب التي لا تخلو من القيم الإنسانية الحقيقية.

يقول ناسخ الرواية: يبدو لي أن الفرصة قد حانت للدفع بمذكرات باسكوال دوارتيه إلى المطبعة، لو دفعت بها من قبل إلى الطباعة لكنت ربما متسرعاً قليلاً، لم أكن أرغب في الإسراع بإعدادها لأن الأشياء يجب أن تأخذ وقتها الكافي حتى تصحيح أخطاء المخطوطة الإملائية، إذ لن يخرج شيء جيد من إنجاز عمل مخطط له بسرعة فائقة كما يقال، بعد أن دفعتها للطباعة لاحقاً لم تعد لدي أي ذريعة فالأشياء يجب أن تظهر حال الانتهاء منها. ويضيف: وجدت الصفحات التي نسختها أدناه في منتصف عام 1939 في صيدلية في بلدة آلميندراليخو- حيث يعلم الله وحده كم من الأيادي الجاهلة وضعت عليها- منذ ذلك الحين، أضحت تسليتي في ترجمتها وترتيبها، إذ كانت تلك المخطوطة بالفعل غير مقروءة تقريباً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الخط السيئ، وجزئياً أيضاً إلى أن الصفحات التي وجدتها لم تكن مرقمة أو مرتبة، وأريد أن أوضح منذ اللحظة الأولى أنه في العمل الذي أقدمه للقارئ الفضولي لم أقم إلا بالنسخ، لم أصحح ولم أضف أي شيء حتى لو كان بسيطاً لأني أردت احترام السرد حتى في أسلوبه، فضّلت في بعض الفقرات الفجة جداً من العمل استخدام المقص وقصها من أجل صحة النص، من الواضح أن هذا الإجراء يحرم القارئ من معرفة بعض التفاصيل الصغيرة- وهو لم يفقد شيئاً بجهله لها- لكنه يقدّم بدلاً من ذلك ميزة تجنّب مرأى المشاهد الحميمية حتى المثيرة منها للاشمئزاز التي أكرّر أني وجدت تقليمها أكثر ملاءمة من صقلها، تمثّل الشخصية- من وجهة نظري- وربما الشيء الوحيد الذي جلبها للضوء، نموذجاً للسلوك وليس نموذجاً للتقليد، بل للهروب منه هو نموذج تصبح أمامه مواقف الشك كلها فائضة، هو نموذج لا أستطيع إلا أن أقول حياله: أترى ما يفعله؟ حسناً، إنه يفعل عكس ما ينبغي له فعله. 

جُمان بركات