دراساتصحيفة البعث

الولايات المتحدة.. انزلاق هادئ إلى السلطوية

علي اليوسف

يتفق الخبراء على أن الديمقراطية ليست مقدّرة سلفاً، وأن انحدار أي بلد إلى السياسات غير الليبرالية التي ظهرت في السنوات الأخيرة في أجزاء من أوروبا وأماكن أخرى لم يكن تدريجياً.

صحيح أن هناك انطباعاً بأن الاستبداد والأشكال الأخرى من التهديدات للحريات لا يمكن أن تحدث في أمريكا، بسبب قوة المؤسسات الديمقراطية، إلا أن الواقع غير ذلك على الإطلاق، لأن الولايات المتحدة مليئة بالعنصرية، وقد ظهرت بشكل كبير مع سياسات الرئيس دونالد ترامب الذي كشف زيف الديمقراطية الأمريكية.

بعد أن ظهر ترامب على شرفة البيت الأبيض لدى خروجه من المستشفى، كتبت المؤرخة آن أبلباوم- مؤلفة كتاب “Twilight of Democracy: The Seductive Lure of Authoritarianism (شفق الديمقراطية: إغراء الاستبداد)- تحليلاً في مجلة ذي أتلانتيك تقول فيه: “رسم ترامب بعض أوجه التشابه مع المشاهد التاريخية للديكتاتور الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني، الذي أحبّ التقاط الصور، تلك الصور التي تمّ تنظيمها هي ما يريد الكثير من الناس رؤيته، وتلك الطمأنينة الزائفة هي ما يريد الكثير من الناس سماعه”.

التاريخ يقدم نصائح وليس دليلاً

كتب الشاعر البولندي الأمريكي تشيسلاف ميلوش في عام 1951 في كتابه “العقل الأسير”: كان البعض متمرداً، وحاول البعض عدم إظهار مقدار ما يعنيه له حظه، وكان البعض الآخر خاضعاً علناً. تمّت كتابة كلمات ميلوش بعد فترة وجيزة من انشقاقه عن بولندا.

لقد شرح ميلوش صعود الشمولية (حيث يكون الناس خاضعين تماماً للدولة) في ظل حكم سلطويين محتملين (يتمّ استحضارهم عموماً كشخص يمارس سيطرة دقيقة على سلطة الدولة القمعية والمركزية). هذه العبارة الأخيرة هي عبارة استخدمها منتقدو ترامب لوصف الرئيس الذي رفض التنحي بعد انتهاء مدته القانونية، وأرسل قوات اتحادية غير محدّدة لقمع الاحتجاجات، ووصف المعارضة بأنها تدخل أجنبي!.

ووفقاً لـ سلفاتور بابونيس، الخبير الأمريكي في مجال الاستبداد في جامعة سيدني الأسترالية: “ربما يكون من المعقول وصفه بأنه ديكتاتوري. لا يمكنك أن تكون سلطوياً عندما لا تحترم جميع القواعد الرئيسيّة للسلطة التقليدية”، في إشارة إلى نهج ترامب غير التقليدي وغير المتوقع في القيادة في قضايا تتراوح من الأمن القومي إلى الحملات الانتخابية.

أشار بابونيس إلى أن ترامب ديكتاتوري لأنه ببساطة يملي سياساته عادةً عبر Twitter ، بدلاً من الوصول إليها من خلال المناقشة. وأضاف: إن الرئيس فرانكلين روزفلت، الرئيس الوحيد الذي خدم أكثر من فترتين، كان أيضاً ديكتاتورياً في أسلوب حكمه، بعد أن رفض التنحي.

جايسون ستانلي، أستاذ الفلسفة في جامعة ييل ومؤلف كتاب “كيف تعمل الفاشية: سياساتنا نحن وهم”، الذي نُشر في 2018، يذهب خطوة أبعد بالقول: “يؤمن ترامب بنفسه فقط كسلطة. يطلق عليه “مبدأ الفوهرر”، في إشارة إلى آلية الدولة التي أشرفت على الرايخ الثالث لهتلر التي تُفهم عموماً على أنها إيمان راسخ بعصمة أقوال القائد وأفعاله. ويؤكد : “يستهدف الفاشيون الأقليات العرقية والمهاجرين. يستخدمون الشرطة بطرق سياسية. نحن نرى كل هذا مع ترامب. نحن بحاجة إلى التركيز بشكل أقل على الكلمة الصحيحة لوصفه والمزيد على عواقب أفعاله”.

إثارة المخاوف

إضافة إلى رفض ترامب الالتزام بتوفير انتقال سلمي للسلطة إذا خسر الانتخابات، شجّع الرئيس أيضاً أنصاره على مراقبة أماكن الاقتراع في يوم الانتخابات بحثاً عن حالات التزوير، وهي جريمة فيدرالية إذا لم يكونوا هناك بصفة رسمية.

و ارتفع عدد الأمريكيين الذن يشعرون أنه سيكون من المبرّر استخدام العنف لتحقيق أهدافهم السياسية بزيادة حادة من 8٪ في عام 2017 إلى 33٪ اليوم، ويعتقد ثلاثة من كل أربعة أمريكيين أنه سيكون هناك عنف بعد نتائج انتخابات 2020 الرئاسية.

ووفقاً لـ بيناردو، من مؤسّسات المجتمع المفتوح، وهي منظمة تأسّست من الملياردير المجري المولد جورج سوروس: “لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تكتفي بالاستناد إلى أمجادها الديمقراطية، لأنها أيضاً يمكن أن تكون عرضة للتآكل البطيء للحريات الشخصية والديمقراطية، وليس من الصعب العثور عليها”.

ويقول مايكل إجناتيف، السياسي الكندي السابق المولود والمتعلّم في الولايات المتحدة، والمؤرّخ ورئيس جامعة أوروبا الوسطى، إنه يرى “خطاباً مثيراً للقلق بشأن الفاشية والاستبداد” ويربطها بترامب. هذا لا يؤدي إلى نتائج عكسية فحسب، بل يؤدي إلى زيادة الهستيريا. في العام الماضي، اضطرت جامعة أوروبا الوسطى إلى نقل جميع دوراتها الدراسية في الولايات المتحدة من بودابست إلى فيينا بسبب قمع أوربان للحريات الأكاديمية في المجر. وقال: “المشكلة أن أمريكا هي استقطاب شديد. لا أعتبرها فاشية. ولا أراها على أنها انهيار للمؤسسات التعويضية. الفاشية ليست مجرد أي سياسة لا تحبها، الفاشية هي الاستخدام الصريح للعنف السياسي، وضرب وقتل الناس، وغزو التجمعات بالبلطجية المسلحين”.

مقارنة ضرورية

تقول الصحفية التركية إيس تيميلكوران مؤلفة كتاب “كيف تخسر بلداً.. الخطوات السبع من الديمقراطية إلى الديكتاتورية”، التي غادرت بلادها في عام 2016 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة: إن ترامب منذ ظهوره على الساحة السياسية شكّك في قدسية المؤسسات والمعايير الأمريكية من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى المحاكم مباشرة بعد انتخابه. وأضافت: إن مسار انهيار الثقافة السياسية في الولايات المتحدة شبيه إلى حدّ التطابق مع انهيار الثقافة السياسية في تركيا، وهذا الانحدار الملموس في الديمقراطية  لم يستغرق سوى عدة سنوات قليلة.

كما أن هناك كتّاباً استحضروا السياسات نفسها التي ينتهجها ترامب، وقارنوها بسياسات أوربان قبل عقد من الزمن، عندما تولّى السلطة في المجر، وقام بتعزيز سلطته التنفيذية ببطء حتى باتت البلاد ديمقراطية بالاسم فقط. خلال ذاك الوقت، قام أوربان بتدمير الخدمة المدنية، وأعاد رسم الخرائط الانتخابية، وقام بتعيين قضاة موالين له، وتعيين الموالين للحزب في مناصب رقابية رئيسية في وسائل الإعلام، وروّج لنسخة من الهوية العرقية الهنغارية التي تكون بيضاء ومسيحية وتعارض بشدة استقبال اللاجئين.

وحتى في بولندا المجاورة شبّه الكثيرون سلوك ترامب بما قام به الرئيس أندريه دودا زعيم حزب “القانون والعدالة” حين قام بتفكيك العديد من الضوابط والتوازنات الديمقراطية ببطء من خلال ملء صفوف المحاكم في البلاد بقضاة مخلصين له. كما شدّد حزب “القانون والعدالة” قبضة الحكومة على مؤسّسات الدولة وشركاتها بما في ذلك وسائل الإعلام، وزاد من سلطاته للتجسّس على مواطنيه. يقول ماتيوز كلينوفسكي، أستاذ القانون وعمدة مدينة فادوفيتشي، مسقط رأس البابا يوحنا بولس الثاني: “أصبحت بولندا مكاناً يتمّ فيه التعبير عن التعصب الرهيب بحرية في الشارع”.

لقد انتُخب ترامب للحدّ من الجريمة والفساد وتقوية الاقتصاد، لكنه خلال السنوات القليلة الماضية دحر النظام الديمقراطي للأمة، وقوّض المحكمة العليا، وقلّل من خطورة عدوى فيروس كورونا، إضافة إلى انتهاكه كافة المعايير الدولية فيما يخصّ الشأن الخارجي حتى انزلق إلى السلطوية. قد لا يكون من المهمّ وجود انقسام كبير حول ما هو المصطلح الأنسب لوصف أسلوب قيادة ترامب، لكن ما هو مهمّ أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق من هذا الفاشي الجديد.