مجلة البعث الأسبوعية

هل ضرب خروتشوف بحذائه طاولة الأمم المتحدة.. أم هي دعاية أمريكية؟!

في نوبةٍ جامحة من الغضب، فاجأ الزعيمٌ السوفييتيٌ السابق نيكيتا خروتشوف العالم عندما ضرب بحذائه على طاولةً في مقر الأمم المتحدة؛ اعتراضاً على خطابٍ ينتقد دولته. أو هكذا تقول القصة المشهورة. وهكذا أصبحت صورة خروتشوف الغاضب صورةً للاتحاد السوفييتي الغاضبٌ، والعنيف، لكن الحقيقة أنه لم تُؤخذ قط أي صورة لحادثة ضرب الحذاء الشهيرة تلك.

كانت الحرب الباردة مستعرةً في أوْجها، وكانت صورة زعيمٌ يتمتَّع بالجرأة الكافية ليستعمل حذاءه كمطرقة، صورةً مخيفةً بكل المقاييس. واستخدمها الغرب في الدعاية ضد السوفييت بنجاح.

لكن حادثة الحذاء قدد تكون أقرب إلى الخيال من الحقيقة التاريخية.

يقول أنتون فيدياشين، أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في واشنطن: رأيي الشخصي أن القصة أمتع من أن تكون واقعية، ولو كانت قد حدثت، لكان لدينا مزيدٌ من الإثباتات والشهود، وغالباً مزيدٌ من الصور، لأن هذه الوقائع تَلفت نظر عدسات الكاميرات. لذا ففيما يتعلق بحادثة ضرب الحذاء، لا أظن أنها قد حدثت قط”. ولكنه يُتابع بأنه حتى لو لم تحدث تلك الحادثة، فقد كان يمكنها أن تحدث، في تلك الفترة من الحرب الباردة. كما أن تلك القصة، سواء كانت حقيقية أم لا، تتماشى تماماً مع شخصية خروتشوف، وفقاً لفيدياشين.

جاءت بدايات القصة في تشرين الأول عام 1960، عندما نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالاً عن جلسةٍ للأمم المتحدة كانت فوضويةً وجديرةً تماماً بالصفحات الأولى. وكان العنوان كالتالي: “جلسة صاخبة بالأمم المتحدة تنتهي مبكراً، لإيقاف مضايقات الشيوعيين”. بينما كتب العنوان الفرعي بشيء من الغموض: “خروتشوف يضرب مكتباً بحذائه”، ثم يوضِّح المحرر بنجامين ويليس، كاتب التقرير، تفاصيل القصة في أولى فقراتها:

“الأمم المتحدة، نيويورك، 12 تشرين الأول.. لوَّح الزعيم خروتشوف بحذائه اليوم وضرب به سطح مكتبه، مضيفاً المزيد إلى قائمة الطرائف المطوَّلة التي يستفز بها الجمعية العامة”.

وبحسب التقرير، فإن لورينزو سومولونغ، عضو الوفد الفلبيني، كان يتَّهم الاتحاد السوفييتي بـ “ابتلاع” أجزاء من أوروبا الشرقية حين اندلع غضب خروتشوف. وكان مرفقاً بالتقرير أيضاً صورة لخروتشوف، جالساً أمام مكتب الموفد الخاص به، وواضعاً على سطحه حذاءً بكل وضوح.

ومن الجدير بالملاحظة أن الصحيفة لم تكن لديها صورة له وهو يمسك بالحذاء، أو يضرب به.

خبير العلوم السياسية ويليام تاوبمان، الذي كتب أو حرر ثلاثة كتب على الأقل عن خروتشوف، بما فيها سيرته الصادرة عام 2003، كتب مقالاً بالصحيفة نفسها، عام 2003، اشتمل على مقابلاتٍ عدة مع من كانوا حول خروتشوف في ذلك اليوم، ورواياتهم لما حدث “أو في الحقيقة: لم يحدث”، بينما زعم صحفي آخر بالصحيفة نفسها أن الواقعة لم تحدث قط، فيما قال أحد جنرالات المخابرات السوفييتية “كي جي بي” إنها قد حدثت بالفعل، وقال أحد موظفي الأمم المتحدة إنها لم تحدث، لكن المترجم الشخصي لخروتشوف قال إنها حدثت، أما آخرون فقالوا لا!! وهكذا يمكنك فهم القصة التي اختلف حولها المحيطون بخروتشوف نفسه في لحظتها، بل لم يحسم السجل الرسمي للأمم المتحدة نفسها المسألة.

وقد نشرت مجلة “التايم” لاحقاً صورةً للحادثة، إلا أنها كانت مفبركة، بينما تناول “معهد بوينتر للدراسات الإعلامية” هذا الموضوع، لكنه وجد أن قصة ضرب الحذاء لم تحدث قط. وكذلك دحضت وسائل إعلامية أخرى القصة.

 

شخصية خروتشوف المثيرة

على الرغم من كل ذلك، فقد كان معروفاً عن خروتشوف أنَّه يهوي بقبضتيه على المنصات والمكاتب في بعض الأحيان أثناء الحديث. لكن في إحدى المقابلات أصرَّ مصوِّرٌ، كان حاضراً وقت حادثة ضرب الحذاء المزعومة، على اعتقاده أن حذاءه لم يلمس الطاولة.

أستاذ التاريخ أنتون فيدياشين يقدم تفسيراً آخر لهذه القصة، فهل ضرب خروتشوف مثلاً بقبضتيه في الأمم المتحدة؟ نعم، فهذا أمرٌ يتماشى مع شخصيته تماماً، ولأن تسجيل الأمم المتحدة لهذا الحدث موجود، لكن لديه شعوراً بأن حادثة الحذاء هذه كلها “اختلقتها عقولٌ واسعة الخيال وألسنةٌ تفوقها في الإبداع، وخلطتها بمسألة ضربه قبضتيه”.

تولَّى خروتشوف مقاليد الحكم في الاتحاد السوفييتي عام 1953، بعد جوزيف ستالين الذي ترك وراءه دولةً مختصمةً بالفعل مع الكتلة الغربية، حليفتها في الحرب العالمية الثانية. وكان الرأي العالمي على المحك للدولة التي توفِّر مساراً أفضل لشعبها: فهل يوفره الاتحاد السوفييتي والنظام الاشتراكي، أم توفره أمريكا والنظام الرأسمالي؟

بالنسبة إلى عديدٍ من الدول الناشئة الباحثة عن طريقٍ نحو العصرنة – الاشتراكية أو الرأسمالية – لم يكن الجواب واضحاً كما هو خلال هذه الفترة في الغرب، إذ إن خروتشوف كان يحسِّن من أوضاع دولته على وجه العموم، مخلِّصاً إياها من آثار الحقبة الستالينية المُرهقة، مطلقاً سراح السجناء، ومخففاً من قبضة الرقابة. وحتى في ذلك الوقت، كانت الصين تبرز باعتبارها مركز قوةٍ محتملاً بعد اعتناقها الشيوعية، وقد انتهت حرب أمريكا ضد الشيوعية بالتعادل في الحرب الكورية التي انتهت في عام 1953.

وفي عام 1957، أدهش السوفييت العالم بإطلاق أول قمرٍ صناعي أرضي، باسم سبوتنيك، وتبعته في 1961 أول بعثة فضائية مأهولة في التاريخ.

كان الصراع بين المعسكرين الشرقي “السوفييتي” والغربي “الأمريكي – الأوروبي” في ذروته، فقد بدأت الحرب الباردة بينهما منذ العام 1947، ولم تنتهِ سوى إلا انهيار الاتحاد السوفييتي. وهكذا كانت الفرصة سانحةً لظهور رجلٍ جريءٍ نصيرٍ للبسطاء، مثل نيكيتا خروتشوف، القائد غير المتعلِّم الذي كان عرضةً لنوبات الغضب المفاجئة وكذلك العطف والدفء.

كان خروتشوف يحصد حماس وإعجاب شعبَه بخطاباته، وكان شخصاً مخلصاً في إيمانه بالاشتراكية، وحريصاً على إظهار قوَّته وقوَّة الاتحاد السوفييتي للعالم. وكان مسرح خروتشوف هذه المرة هو خطابه في الأمم المتحدة.

 

سياق الحرب الباردة بين “العالَمَين”

اتخذت الحرب بين أمريكا “الكتلة الغربية” والاتحاد السوفييتي “الكتلة الشرقية” شكلاً جديداً، فبعدما انتصرا معاً على هتلر في الحرب العالمية الثانية، قسما العالم إلى مناطق نفوذ. كان تدخُّل كليهما في تلك المناطق محسوباً بدقة، إذ كانت بعض الدول حليفةً مباشرة لهذه الدولة أو تلك، بينما البعض الآخر على الحياد، والبعض الآخر تتأرجح مصالحه بينهما.

وهكذا، لم يتواجه السوفييت والأمريكان كثيراً على أرضٍ واحدة، أي لم يدخلا حرباً شاملةً بينهما، خصوصاً أن كليهما امتلك سلاحاً نووياً مدمراً، لكنهما دخلا في حروبٍ بالوكالة، أحياناً على أرض فيتنام وأحياناً على الأراضي الكوبية، وأحياناً في إفريقيا، بل أحياناً بالمنطقة العربية، خصوصاً في فترة الصراع العربي الإسرائيلي.

لكن تلك الحرب في الحقيقة لم تكن دوماً “باردة”، فقد تخللتها مراحل “ساخنة”، بل “ساخنة للغاية” كادت ربما تودي بنصف البشرية جمعاء. فكلا الطرفين يمتلك سلاحاً نووياً، وكان في بعض الأحداث على شفا استخدامه مباشرةً، لكن الأقدار تدخلت فمنعت هذه الحرب أو تلك.

نستذكر فقط هنا مثالين فقط من هذه الأحداث: في عام 1962- أي بعد عامين من حادثة خروتشوف في الأمم المتحدة – بدأ السوفييت بإنشاء قاعدة للسلاح النووي في دولة كوبا، الواقعة قرب الحدود الأمريكية الجنوبية الشرقية. التقطت طائرة تجسس أمريكية صوراً للقواعد، وبدأ التصعيد بين الطرفين، ولم ينتهِ الخطر العالمي إلا بالوصول إلى “منطقة وسط” بين العدوين اللدودين بإزالة صواريخ مشابهة لأمريكا من تركيا، على حدود الاتحاد السوفييتي.

وقبل هذه المغامرة السوفييتية، سبقتها مغامرة أمريكية؛ في محاولةٍ من الرئيس الأمريكي لإخضاع كوبا الواقعة على حدوده للسيطرة الأمريكية. وكانت العملية عبارة عن محاولة لتغيير نظام الحكم في كوبا، فقد أرادت أمريكا أن تستبدل فيدل كاسترو الموالي للاتحاد السوفييتي ببعض المتمردين الكوبيين. وهكذا في كانون الثاني 1961، بدأت عملية “خليج الخنازير”، حيث شنت القوات الجوية الأمريكية هجوماً على القواعد الجوية الكوبية ثم اتبعتها بدعم غزوٍ بري للمتمردين.

تصدَّت القوات الكوبية لقوات المتمردين، وقتلت منهم 100. وبعد 4 أيام من الأحداث، كانت القصة قد انتهت بهزيمة المخطط الأمريكي فقد امتنعت واشنطن عن تقديم غطاء جوي مباشر أو دعم لوجيستي وسياسي مباشر للمتمردين؛ حتى لا يبدو أنه تدخُّل أمريكي، أو احتلال لكوبا، ما قد يثير حفيظة الاتحاد السوفييتي بالطبع، فيتدخل بشكل مباشر.