دراساتصحيفة البعث

الحركة التصحيحية.. تصحيح المسار وتحقيق الإنجازات

د. معن منيف سليمان

أدخلت الحركة التصحيحيّة، التي قادها القائد المؤسّس حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970، إصلاحات جديدة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنهت الصراعات الداخلية فيه، وانتُخب القائد المؤسس حافظ الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية بأغلبية شعبية ساحقة في أوائل عام 1971، وبدئ العمل من أجل إصلاح الأوضاع السياسية في سورية، فتشكّل مجلس الشعب، وجرى توحيد الأحزاب الرئيسية في الجبهة الوطنية التقدمية، ووُضع دستور دائم للبلاد، وحاربت سورية “إسرائيل” في تشرين الأول عام 1973، لاستعادة الأراضي العربية المحتلة.

ففي مرحلة الستينيات من تاريخ قطرنا العربي السوري، انبثقت ضرورة وجود قيادة للحزب والدولة والمجتمع تكون على مستوى إنجاز المهام التاريخية الصعبة التي تواجه نضال الأمة العربية من حيث الوجود والحدود والكرامة والمصير، كما تطلّبت ظروف هذه المرحلة توافر أعلى شروط الوعي والثقة بالحزب وقواعده وجماهيره، وباقي القوى الوطنية والتقدمية، لكي تتمكّن هذه القيادة من تعبئة قوى الجماهير، وتجنيد طاقاتها لخوض معركة التحرير والبناء، في الوقت الذي كانت فيه آثار النكسة ترخي بثقلها ومرارتها على نفوس عامة أفراد الشعب في الوطن والأمة، ثم أتى تسلّط القيادة ومناوراتها ليزيد من خطورة المرحلة، وليعرّض الحزب والثورة للخطر، فتصدّى مناضلو الحزب بقيادة الرفيق المناضل حافظ الأسد لهذا، وتمّ القيام بحركة تصحيحية من داخل الحزب تعيده إلى مساره الصحيح، وتخلق مناخاً حزبياً وشعبياً في القطر والوطن العربي يساعد على وحدة جبهة الشعب الداخلية، ووحدة جماهير الحزب وقواه المناضلة لدفع مسيرة الثورة إلى الأمام، وخوض معركة التحرير والعمل لتحقيق الوحدة.

وقد وضعت جماهير الشعب والحزب ثقتها بالرفيق حافظ الأسد نظراً لما عرفته عنه من دور إيجابي في حسم الصراعات والأزمات التي مرّ بها الحزب، ولمواقفه التاريخية من قيادة اليمين، ثم موقفه الحازم والفعّال في ثورة 23 شباط، وكذلك موقفه المؤثر في القضاء على مؤامرة أيلول عام 1966، كما تجلّت أيضاً مواقفه القومية والوطنية الجريئة في المؤتمر القطري الرابع، والقومي العاشر عام 1968، ضدّ القيادة المتسلّطة والمناورة والممارسات الخاطئة التي عملت على إلغاء دوره الوطني، وتعبئة الحزب والجيش ضدّه، دون أن تفلح في ذلك، لأنه كان مع الشعب والحزب، فصار الحزب والشعب معه، وقادهما لحسم المواقف في 16 تشرين الثاني عام 1970، حيث أعلنت القيادة القطرية المؤقتة بيانها التاريخي الشامل الموضّح لمسيرة التصحيح بأبعادها المحلية والوطنية والقومية والدولية.

وشرع القائد المؤسس حافظ الأسد بعد انتخابه رئيساً للجمهورية العربية السورية مطلع عام 1971 بترسيخ الاستقرار الداخلي في القطر من خلال إرساء دولة المؤسّسات الديمقراطية: “مجلس الشعب، والإدارة المحلية، والدستور الدائم للبلاد، والجبهة الوطنية التقدمية”، وقد كان الاهتمام بالوضع الداخلي، وتكريس مسيرة الاستقرار والبناء، مواكباً لأبعاد النضال القومي ومتطلباته.

إن المرحلة التي قطعها نضال الحزب خلف القيادة التاريخية للتصحيح المجيد وقائده الأمين، هي مرحلة الإنجازات الوطنية والقومية الضخمة، فتمّ بناء سورية القومية المتماسكة داخلياً، وكانت تلك المرحلة مرحلة التأسيس، وبعد ذلك الانطلاق نحو البناء والتحرير في عمر الحركة التصحيحية، كما وضع القائد المؤسس أساليب العمل القومي قدماً إلى الأمام، وتوجّه بثقة وقوة إلى تحسين العلاقات العربية العربية، ودعم التضامن العربي، وبادر إلى زيادة أواصر الثقة وتبادل العلاقات على المستويات كافة بين الأشقاء من المحيط إلى الخليج.

لقد سارت أيام التصحيح المجيد على طريق النضال القومي قدماً يوماً بعد يوم، وإنجازاً بعد إنجاز، وقد كان تشكيل مجلس الشعب من أبرز تلك الإنجازات، ويضمّ ممثلين عن الحزب والمنظمات الشعبية والمهنية والقوى والعناصر التقدمية بهدف ممارسة التشريع ووضع الدستور الدائم للبلاد، وقد بدأ المجلس أعماله بكلمة توجيهية قومية ألقاها القائد المؤسس في 22 شباط عام 1971. وكانت الخطوة المهمّة التالية بعد تشكيل مجلس الشعب متمثلة في المرسوم الذي صدر في 11 أيار عام 1971، المتضمن قانون الإدارة المحلية الذي يهدف إلى تركيز المسؤولية في أيدي جماهير الشعب لتمارس بنفسها إدارة شؤونها، من خلال جعل الوحدات الإدارية في كل المستويات مسؤولة عن الاقتصاد والثقافة والخدمات وغيرها، وقد جرى انتخاب مجالس الإدارة المحلية في المحافظات في دورتها الأولى في 3 تموز عام 1972. وفي العام نفسه صدر القرار رقم 35 تاريخ 24 أيار عام 1971، الذي تضمّن تشكيل لجنة من الأحزاب والقوى الوطنية التقدمية تتولّى وضع صيغة عملية للوحدة الوطنية، وفي أقل من سنة أنجزت اللجنة مهامها، ووضعت ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، وتمّ التوقيع عليه من قبل جميع الأحزاب المشاركة في 7 آذار عام 1972، وحدّدت مهام الجبهة على الصعيد الوطني، والقومي، والدولي، كما حدّد نظامها الأساسي ومؤسساتها.

وفي المجال نفسه كان تحقيق الإنجاز الآخر المهمّ الذي يعدّ رديفاً وخطوة متكاملة وموازية للخطوات السالفة، فقد أقرّ مجلس الشعب الدستور الدائم للبلاد، ونصت المادة /165/ منه على اعتباره نافذاً من تاريخ إقراره بالاستفتاء الشعبي الذي تمّ في 12 آذار عام 1973، وقد أكد الدستور أن الحرية حقّ مقدس، والديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن حريته، ومكرساً التحولات التقدمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحقّقت في سورية، ومؤكداً على استمرارية النهج الوطني والقومي التقدمي الذي سارت عليه سورية العربية في ظل التصحيح المجيد وقائده.

وتأتي حرب تشرين التحريرية عام 1973، والنصر القومي الكبير الذي تحقّق، في طليعة إنجازات تلك المرحلة على مستوى النضال القومي، وكانت تتويجاً للمرحلة الانتقالية من عمر التصحيح المجيد، وقد جاءت آثار هذه الحرب ونتائجها بالغة الأهمية على الصعيد القومي والعربي، والعسكري والدولي، وفي حرب تشرين التحريرية يقول القائد المؤسس حافظ الأسد مبيناً قومية المعركة وقومية النصر: “على أن أروع الإنجازات وأبعدها أثراً هو ما تحقّق على الصعيد القومي، وأبرزها حرب تشرين التحريرية التي خاضت قواتنا المسلحة غمارها على جبهة الجولان ببسالة تبعث على الفخار، وكفاءة تدعو إلى الاعتزاز، وحقّقت مع القوات العربية المصرية الباسلة على جبهة سيناء، ومع سائر الأشقاء الأبطال الذين قاتلوا على الجبهتين نصراً لأمتنا العربية سيبقى بعيد الأثر في حياتها، وشديد الوطأة على أعدائها حتى يزول العدوان وتعود الحقوق المغتصبة إلى أصحابها”.

واستمرت سورية بمواقفها الثابتة والمبدئية في مواجهة المخطّطات والمشاريع الصهيونية بعد حرب تشرين التحريرية، وبقيت بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد متمسكة بأهدافها وثوابتها الاستراتيجية الوطنية والقومية، وشامخة رافعة لواء المقاومة والصمود والممانعة لمواجهة العواصف العدوانية لتحالف الشر العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لإخضاع المنطقة للنظام الشرق أوسطي الجديد الذي تحطّم على صخرة صمود المقاومة من العراق إلى لبنان وفلسطين.

وتعدّ مراحل نضال الحركة التصحيحية المجيدة تأسيساً مستمراً ومتكاملاً للمشروع القومي العربي وفق الظروف والتحديات المستجدة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وتؤكد وقائع هذه المرحلة قيمة ما حقّقته مسيرة القائد المؤسس حافظ الأسد لبناء سورية العربية الحديثة القادرة على خوض المعارك ضد التحديات الوطنية والقومية، كما تؤكد سعي القائد لتحقيق المشروع القومي العربي.

وواصل السيد الرئيس بشار الأسد مسيرة البناء الداخلي حاملاً راية التطوير والتحديث، إذ إن سورية تمتّعت بالانفتاح والتقدم العلمي الكبير، بوجود المصارف الخاصة والجامعات والكليات في العديد من المناطق، إضافة إلى العشرات من وسائل الإعلام الجديدة الخاصة، وصدرت عشرات المراسيم والقوانين والإجراءات العملية التي تمسّ حياة المواطنين، وكذلك حققت سورية العديد من الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفضل حكمة وحنكة السيد الرئيس بشار الأسد، الذي نجح في تعزيز العلاقة الاستراتيجية مع البلدان المجاورة وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كمقدمة لبناء نظام شرق أوسطي جديد جوهره المقاومة بمعناها الثقافي والعسكري. وأصبحت سورية اليوم أكثر تفاؤلاً بالمستقبل على الرغم من كل المعوقات ورهانات الخارج التي تحطّمت على صخرة الصمود العربية السورية، فقد استطاع سيادته أن يثبت بأنه القائد الصلب والمنفتح أيضاً الذي يتعامل مع الأحداث والمتغيّرات بعقلانية وحكمة ودراية.

وأخيراً، لا بد من القول: إنه لولا الحركة التصحيحية المجيدة لكان وضعنا العربي أكثر مأساوية، ولا كان هناك قلعة صامدة تقف بصلابة وشموخ أمام كل المؤامرات التي عصفت وتعصف بمنطقتنا العربية، وتسقطها وتفشلها، ولا كانت هناك تلك الإنجازات الداخلية التي كانت ركيزة أساسية للاستقرار الداخلي والتطوير والتحديث.