ثقافةصحيفة البعث

مقاربات شعرية!!

الوزن، القافية، والإيقاع، ليست هي المعايير التي يجب أن تتوفر فقط في قصيدة العمود لتحقيقها، فهذه شروط تقنيّة صرفة، تُكتسب بالمران، ثمّة معايير أو لنقل شروط أخرى غير معلنة لهذه القصيدة لكن مُتفق عليها ضمنياً بين الشعراء أنفسهم، وبين الشعراء والمتلقي، والأخير -كما هو معروف- هو الطرف الذي لا تقوم قائمة للفنون والعلوم والفلسفة وغيرها من دونه، من تلك الشروط غير المعلنة بل إنه يُعدّ من أهمها ما يُعرف بـ”النسيب” وما يتضمّنه من وقوف على الأطلال وذكر للحبيب والتعريج على الديار.. وغيرها، من يخلّ بهذا الشرط فإنه ليس بشاعر، والإبداع هنا يكمن في كيفيّة تحقيق هذا الشرط الصعب. هذا الكلام كان طبعاً قبل الدخول في معترك الحداثة الشعرية وما بعد الحداثة الشعرية وما بعد بعد الحداثة الشعرية، وهذه الأخيرة -وهي حالة عجيبة غريبة- يُروّج لها العديد من النقاد في الغرب بداية كالعادة فيما يخصّ هذا الشأن، ونتلقفها هنا في الشرق ثم يتمّ تصديرها بإبهام وغموض وتهويم للمتلقي، من قبل الذين يعتبرون أن الغموض يعني العمق!، وهذا ما يظهر جليّاً عند تصديهم النقدي لقصيدة شعرية، عرض مسرحي، فيلم سينمائي، مسلسل تلفزيوني.. وغيرها، وذلك في العبارات التي يرصفون فيها كلاماً لا ترابط بينه، مع زجّ مصطلحات لا حاجة لها في مقالاتهم “النقدية”، تلك التي لا يخرج منها المتلقي بفكرة واضحة وذات معنى، ليعزو السبب في ذلك إلى جهله بطبيعة ما يكتبون، لا للطلاسم غير المفهومة التي يقرؤها!.

تلك الحداثة الشعرية، ينسبها البعض زمنياً لسنين خلت، أي مع بداية ظهور قصيدة النثر، رغم أنها فعلياً ظهرت قبل ذلك بزمن بعيد، -ماذا نسمّي ما فعله أبو تمام أو أبو النواس، والمعري.. وغيرهم من الشعراء المحدّثين الكبار؟- أما التحديث فيجيء فيها عبر تكسير المعايير التقنية الشعرية، على اعتبار أن الحداثة تطالُ الشكل أو النوع-عمود/ تفعيلة/ نثرة- ومكوناته- بحر/ إيقاع/ قافية.. وغيرها- إلا أن الحداثة لا تقف عند الشكل فقط كما وقع في اشتغالنا على تحديث الشعر، الذي يظهر-أي الشعر- وفق هذا المفهوم -تحديث- كموديل ثياب أو نوع هاتف جوال، لا كأحد أهم وأعرق الفنون في التاريخ، فجوهر الحداثة هو تحديث المضمون وأسلوب التعبير عنه، والتكسير ليس للشكل والمعايير فقط، بل لبنية القصيدة نفسها، اللغة، المجاز، الصورة، والأهم تكسير الشرط الفني غير المعلن، شريطة أن ينتج عن ذلك ما يضاهيه ويتفوّق عليه في الصنعة الشعرية، فالفنان الذي يريد الخروج عن الشرط الفني، يجب عليه أن يعرفه تمام المعرفة أولاً، الرسام مثلاً لا يمكنه الذهاب نحو اللعب على التنويع في رسم الجسد البشري في لوحته، مالم يكن على علم دقيق بمقاييسه الصحيحة تشريحياً أولاً، ولهذا نجد أن الموضوعات الشعرية لم تتغيّر أو تخضع لسلطان “الحداثة” كما خضع لسلطانها الشكل والمعايير أيضاً إلا نادراً. قصيدة النثر مثلاً لا تعترف بالبحور الشعرية، لا تعنيها القافية حتى أنها تعتبرها من أعتى القيود أمام “تدفق السيل الشعري” عند الشاعر، عدا عن كونها تحدّ هذا التدفق، إنها ضد الإيقاع والذي يُعدّ من أهم التقنيات التي تساعد على الحفظ، لذا ترى الطفل يحفظ أغنية إيقاعية بالمقام الأول عن ظهر قلب، دون أن يعي ماذا يردّد من كلماتها، إنها من الآخر غير معنيّة بأي شأن يخصّ قصيدة العمود، وهذا الخيار لا يُقدم عليه إلا مبدع –كما يفترض- ذاك أن الانفلات من الشروط وتكسير القواعد، يجب أن ينتج عنه إبهار جديد.

وهنا سنقف مع أحد أهم الشروط غير المعلنة في القصيدة العربية “النسيب” وكيف كان لزاماً على الشاعر أن يجعله مطلع قصيدته كشرط فني أولاً، دونه لا قيمة لقصيدته برمتها، وهو ما يغيب تماماً عن قصيدة النثر التي لم تلتفت لهذه الفكرة القيمّة كونها تعني أولاً معرفة قدرة الشاعر، وإن كان يستحق أن يكون من أهل الكلم أم لا، ولهذا يُعدّ أبو النواس من أهم وأجرأ المُحدّثين في بنية القصيدة العربية، لقد نسف هذا الشرط تماماً، أولاً بالسخرية منه: “قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس”، في إشارة صريحة إلى “قفا نبك” ومثيلاتها، ثانياً بالإتيان بما يتفوق عليه شعرياً وفكرياً وفنياً، والقارئ المتمّعن لنتاج هذا الشاعر، سيرى أنه ذهب نحو تقويض الأفكار الدينية المُختلف عليها بل ونسفها، وهذا مبحث آخر ولكنه دلالة على عمق المشروع الفكري التحديثي التنويري الذي اشتغل عليه هذا الشاعر الفذّ، في الزمن الخطير الذي برز فيه الصراع الديني إلى واجهة الحياة العامة، بعد أن كان قد خمد، والذي راح يهدّد وجود الدولة العربية برمتها والعودة بها إلى المضارب والعشائر كما لو أنها لم تقم من الأساس!.

بالتأكيد ظهر لدينا العديد من كبار شعراء هذه القصيدة، إلا أن العلامات الفارقة فيها لمّا تزل معتمدة على مفهوم “النجومية في الشعر” أكثر من اعتمادها على حضور هذه القصيدة في الوجدان الجمعي وفي تشكيل الوعي المعرفي العام، الذي وصلنا كعرب أول ما وصلنا من الشعر، وهذا جعلها في مهبّ الجميع، فلا قواعد أو شروطاً معلنة وواضحة يجب أن تقوم عليها، ولا يوجد أيضاً وهو الأهم الشرط الشعري غير المعلن والذي كان هو المحدّد الحقيقي للشعرية، باعتبار أن الشروط الأخرى تُكتسب بالمران كما أسلفنا.

اليوم هذه القصيدة أو “النثرة” تتخبّط في حيرة شديدة، سواء من القارئ الذي لا زال ينفر منها، أو من “شعرائها” اليوم –وما أكثرهم- بعد أن صارت معظم النصوص الموجودة في المجاميع “الشعرية” متشابهة، لا خصوصية تميّزها إلا بعض التجارب التي استطاعت أن تترك بصمتها في هذا النوع، والمدقّق سيرى أن أغلب تلك التجارب كان شعراؤها من كُتّاب قصيدة العمود، أي أنهم عرفوا الشرط الفني والتقني، قبل أن يذهبوا نحو تكسيره.

التجربة العربية في قصيدة النثر، تحتاج مراجعة شاملة، فالتخبط والعشوائية التي تحكمها اليوم، تكاد تودي بها وبمنجزها برمته.

تمّام علي بركات